قال تعالى: ((قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:88]، قراءة الجمهور في قوله: (بيده ملكوت) بالصلة، وقراءة رويس عن يعقوب بعدم الصلة فيها: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كل شيءٍ)، والصلة بمعنى: أن تتحول الكسرة إلى ياء.
و (ملكوت) صيغة مبالغة من الملك، كأن نقول: الرحمن، فهو له رحمة سبحانه، والرحمة هي الرحموت، وهي صيغة مبالغة من الرحمة، أي: هو صاحب الرحمة، و (الملك) المبالغة فيه أن تقول: (الملكوت)، و (الجبر) يأتي منه (الجبروت)، و (الرهبة) يأتي منها (الرهبوت)، وهذه من صيغ المبالغة فيها، فالملكوت معناه: الملك العظيم.
فقوله تعالى: ((قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ))، أي: ملك كل شيء خلقه ويدبره ولا يعجزه أبداً سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ}، أي: الله سبحانه وتعالى هو الذي يغيث من يشاء، وهل أحد يقدر أن يغيث أحداً من الله سبحانه وتعالى إذا أراد الله عذابه؟! وهل يقدر أحد أن يمنع الله سبحانه وتعالى عن ذلك؟ فالله يجير ويمنع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فإذا اجتمع كل الخلق إنسهم وجانهم ليضروا إنساناً والله يجير هذا الإنسان لا يقدرون أن يضروه بشيء، وإذا اجتمعوا على أن ينفعوه وقد أراد الله عز وجل ألا ينفعه، بل أراد الله أن يضره لا يقدرون أن يغيثوه من بطش رب العالمين سبحانه، فمن يجير من الله عز وجل؟ أي: من يمنع من الله سبحانه؟ لا يمنع منه أحد، فالله يؤمن من يشاء من عذابه، ولا يقدر أحد أن يؤمن من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهذا في الدنيا وفي الآخرة.
فقوله تعالى: ((وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ)) أي: لا يقدر أحد أن يمنع من غضب الله سبحانه وتعالى، ولا من بطشه، ولا يقدر أحد أن يمنع عذاب الله إذا أراده بأحد، قال تعالى: ((إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))، أي: إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني من الذي يجير على الله؟
صلى الله عليه وسلم لا أحد.
قال تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} أي: ذلك كله لله سبحانه، فهو الذي يقدر عليه ويملكه، وليس لنا منه شيء، وفي هذه الآية قراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب، (سَيَقُولُونَ اللهَ)، في هاتين الآيتين فقط، أما الآية الأولى فلا يوجد فيها إلا قراءة واحدة فقط، والتي هي قوله سبحانه: ((قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) * ((سَيَقُولُونَ لِلّهَ))، هذه القراءة اتفاقاً، لكن الآيتين اللتين بعدها تُقرأ: (سَيَقُولُونَ اللهَ).
قال سبحانه وتعالى: ((قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ))، يسحر الإنسان أي: يصرف، بأن يخيل له الشيطان أشياء وهماًً على خلاف الحقيقة، فيا من تقولون: إن ذلك كله لله كيف سحرتم؟ وكيف غفلتم؟ وكيف توهمتم أشياء على غير حقيقتها فابتعدتم عن الله سبحانه وتعالى؟ وكيف خدعكم الشيطان وقد أقررتم أن الله هو الذي يملك هذا كله؟ فقوله تعالى: ((فَأَنَّى تُسْحَرُونَ))، أي: فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعة رب العالمين وتوحيد الله سبحانه؟ وكيف تتخيلون أنكم تشركون بالله سبحانه ما لا ينفع ولا يضر؟ فقد خيل لهم الشيطان أن هذه الأشياء تنفع وتضر؛ فعبدوها من دون الله، فكان من أفعالهم العجب، أن يعبدوا غير الله سبحانه، فإذا سئلوا أعدوا
صلى الله عليه وسلم { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فإذا سألتهم: هل هذه الأشياء تنفع وتضر؟ يقولون: لا تنفع ولا تضر، فإذا سألتهم: كيف تعبدون ما لا ينفع ولا يضر؟ يقولون: ((وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ))، وهؤلاء القوم أنفسهم إذا أنعم الله عليهم بالإسلام يعجبون من جهلهم وضلالهم في جاهليتهم: كيف عبدنا هذه التماثيل من دون الله سبحانه؟! وكيف عبدنا هذه الأصنام وانتظرنا منها نفعا وضراً؟! فهم يتعجبون، ولكنهم في كفرهم وفي غيهم يعمهون، ولا ينتبهون لما يقعون فيه من خطأ.