تقدم قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} [المؤمنون:75] أي: من عذاب الآخرة، إلا أنهم قد استحقوا عذاب الآخرة، ولكن الله قبل ذلك قد أذاقهم شيئاً من العذاب في الدنيا، ثم كشفه عنهم، ولذا قال مذكراً: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون:76] أي: أخذناهم بالعذاب الدنيوي، {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، أي: لم يخضعوا لرب العالمين، ولم يتضرعوا ولم يخشعوا لله، ولم يرجعوا إلى طريق رب العالمين سبحانه.
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت هذه الآية في قصة ثمامه بن أثال، فإنه لما أسرته سرية النبي صلى الله عليه وسلم أسلم وخلى النبي صلى الله عليه وسلم سبيله، وكان ثمامة من اليمامة، وهي على طريق قريش فأخذ على نفسه عهداً ألا يأخذ الكفار من أرضهم شيئاً لا غلالاً ولا شعيراً ولا غيرها إلا أن يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم حقق عهده ومنع كفار مكة من الحبوب.
قال ابن عباس رضي الله عنه: وأخذ الله قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز؛ إذ أصابتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا الله سبحانه وتعالى على قريش بأن يعينه عليهم بسنين كسني يوسف، ولم يكن دعاؤه من أجل تعذيبهم فحسب؛ بل أيضاً من أجل أن يتأدب هؤلاء ولعلهم يرجعون عن غيهم، فكان هذا العذاب الذي ذكر الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون:76]، فجاعوا وعطشوا، واشتد عليهم الحر حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز، وقد سئل ابن عباس: ما العلهز؟ قال: كانوا يأكلون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه.
وإنما أكلوا هذا الشيء على خسته من شدة الجوع.
فقال أبو سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنشدك الله والرحم أليس تزعم أن الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال: بلى.
قال: فوالله ما أراك إلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع، فنزل قول الله عز وجل: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75])، وجاءت روايات أخرى بمثل هذا المعنى، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فاستجاب الله سبحانه، وجعل عليهم أياماً فيها قحط شديد، فجاعوا حتى أكلوا الميتة والكلاب والجلود والعلهز، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ادع ربك أن يكشف عنا.
فدعا لهم الله سبحانه وتعالى، فلما كشف عنهم ذلك تمادوا في غيهم، ولم يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان الأولى بهؤلاء وقد عرفوا أنه دعا عليهم صلى الله عليه وسلم فأصابهم ما أصابهم، ودعا لهم صلى الله عليه وسلم فانكشف عنهم ما هم فيه، كان الأولى أن يؤمنوا، ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا، ولذلك علم الله عز وجل أن هؤلاء لا يستحقون إلا الجزاء الذي استحقه من مات منهم على الكفر، وهو أن يدخلوا نار جهنم ولا يرجعون إلى الدنيا مرة أخرى.