قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
بدأ الله هذه السورة العظيمة بقوله سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وفيه التذكير باليوم الآخر كعادة السور المكية، فذكر اليوم الآخر حتى يستعد الإنسان للحساب.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، اقتربت القيامة، كما ذكرهم بالآخرة في مواضع من القرآن كقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل:33]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} [الزخرف:66].
فذكر هنا أنهم ينتظرون الساعة، وطالما أن ربنا أخبر أن الساعة آتية فلا شك أنها آتية، ومهما طال عمر الإنسان فهو لا شيء إذا ما قيس بأيام يوم القيامة، قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
فالإنسان إذا عاش خمسين سنة يكون واحد على عشرين من يوم عند الله سبحانه وتعالى، وعلى ذلك فعمر الدنيا محدود وقليل وضئيل ويسير، فلما قال الله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) معناه: أن أمر الله قريب جداً وإن لم تأت الساعة الكبرى فستأتي ساعتنا نحن.
قال تعالى: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] لأن أكثر الناس على هذه الغفلة.
وقال: ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ)) كعادة السور المكية في ذكر الناس، أما في السور المدنية فإنه يذكر الذين آمنوا، وذكر الناس في السور المكية بسبب أن أكثر الناس في هذا الوقت كفار، والله سبحانه وتعالى يخاطب الجميع، أما السور المدنية لما كان فيها ذكر التشريعات، وأن هذه التشريعات لن يقوم بها إلا المؤمنون فكان يخاطب الذين آمنوا، فالمؤمن هو الذي سيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
أما في المرحلة المكية فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كفرة، وكان المؤمنون في ذلك الوقت عددهم قليل، حتى أسلم سيدنا عمر رضي الله عنه سنة ست من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أو نحوها، فكان عدد المؤمنين ما بين أربعين إلى خمسة وأربعين من الرجال وعشر من النساء، فالخطاب لن ينزل لهؤلاء الأربعين أو الخمسين، ولكنه خطاب لجميع من يدعوهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالمعنى: اقترب لجميع الناس -مؤمنهم وكافرهم- الحساب، والغالب على حال الناس الغفلة والإعراض عن ذكر الله والإعراض عن اليوم الآخر، وكثير من الناس إذا جئت تذكره بالموت، يقول: لا تذكرني بالموت فأنا أخاف من الموت، والخوف من الموت ليس كلمة يقولها الإنسان، بل حقيقة الخوف من الموت أن يعمل الإنسان ويستعد لليوم الذي يموت فيه، والذي يجيب فيه عن أسئلة الملكين في قبره.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] كان الصحابة يخافون من أن يغفلوا عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وخاصة في الأوقات الفاضلة التي يستحب فيها ذكر الله عز وجل كذكر الله بعد الفجر، وبعد العصر -يعني: طرفي النهار- والقيام في السحر، فكانوا يحبون أن يذكروا الله عز وجل في جميع أوقاتهم وخاصة في مثل هذه الأوقات.
روى الإمام مسلم عن أبي وائل، قال: غدونا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوماً بعدما صلينا الغداة، -يعني: الفجر- قال: فسلمنا بالباب فأذن لنا، قال: فمكثنا بالباب هنيهة فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ فدخلنا، فإذا هو جالس يسبح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أذن لكم؟ قالوا: لا إلا أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة، -يقصد نفسه- ثم أقبل يسبح.
والمعنى: أن أهل بيته لم يكونوا نائمين في هذا الوقت وهو وقت الفجر؛ لأن ابن مسعود يوقظ زوجته وعياله ليصلوا الفجر ويذكروا الله عز وجل في هذا الوقت، سواء جلس هو في المسجد أو ذهب إلى بيته يذكر الله تبارك وتعالى.
ثم أقبل يسبح، يعني: مع أن الضيوف جاءوه إلا أنه اشتغل بالتسبيح، حتى ظن أن الشمس قد طلعت فقال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ قالت: فنظرت فإذا هي لم تطلع، فأقبل يسبح حتى إذا ظن أن الشمس قد طلعت، قال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت، فقال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا.
يعني: أعطانا هذا اليوم نذكره فيه، والإقالة هنا بمعنى: أن ربنا سبحانه وتعالى تكرم علينا وترك لنا هذا اليوم نعيش فيه، ونأخذ بذكره أجراً وثواباً.
قال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا ولم يهلكنا بذنوبنا.
كأنه يقصد أن كل إنسان يستحق أن يحاسبه الله ويعذبه على ذنوبه التي يفعلها، ولكن الله سبحانه يتكرم على عباده ويرجئهم ويعطيهم الفرصة ليتوبوا إليه فيتوب عليهم سبحانه وتعالى، ويذكرونه فيذكرهم ويشكرهم سبحانه.
قال: فقال رجل من القوم: قرأت المفصل البارحة.
يعني: ما بعد وقت طلوع الشمس إلى أن يصلي ابن مسعود صلاة الضحى بدأ يكلم الضيوف، فأخبره رجل منهم أنه قرأ المفصل البارحة، يعني: في قيام الليل.
والمفصل من أول قاف إلى آخر القرآن، أو من أول الحجرات إلى آخر القرآن، وهذا يعني أنه يقرأ أربعة أجزاء، وهذا شيء طيب.
فلما قال ذلك قال له ابن مسعود: أهذّاً كهذ الشعر؟ إني لأحفظ القرائن التي كان يقرؤهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر من المفصل وسورتين من آل حم.
الشاهد: أن ابن مسعود كان في هذا الوقت يذكر الله تبارك وتعالى، وأهل بيته أيضاً يذكرون الله سبحانه وتعالى في هذا الوقت، وقال لضيوفه: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة.
فكانوا يخافون من الغفلة وإن كان أغلب الناس في غفلة، كما ذكر الله تبارك وتعالى {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، أي: معرضون عن ذكر الله تبارك وتعالى.