لما بدأ الله عز وجل بالشيء الهام الذي ينتظره الإنسان المؤمن، وهو أن يكون مفلحاً وبين صفات الفلاح، بدأ بعد ذلك يذكر لنا بدء خلق هذا الإنسان، فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] أي: أن الله هو الخالق للإنسان وغيره من المخلوقات، فهو سبحانه وتعالى خلقهم ليطيعوه وخلقهم ليعبدوه سبحانه وتعالى، فالله عز وجل خلق السماوات وخلق الأرضين، وخلق كل شيء، وما من شيء إلا يسبح بحمده، فليس محتاجاً لعبادة هذا الإنسان ولا لهؤلاء الجان، ولكن الله عز وجل يبتلي الخلق بعضهم ببعض، لحكمة منه سبحانه وتعالى، فملائكته أقوى من سائر خلقه سبحانه وتعالى، وهم يعبدونه ليل نهار، وما من موضع في السماوات إلا وفيه ملك لله عز وجل إما قائم أو راكع أو ساجد يعبد الله ويسبح الله، وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
فهذا الإنسان المخلوق الضعيف الذي هذا أصله لا يحتاج الله عز وجل لعبادته؛ بل خلقهم سبحانه وتعالى ليبتليهم، وهذا الإنسان خلقه ليكرمه إن أطاع ربه، وليحقق مقتضى صفاته أنه الرحيم والقدير والعليم والحكيم والخبير سبحانه وتعالى، فيخلق المخلوقات ليحقق مقتضى هذه الصفات العلية له سبحانه وتعالى، فلا يحتاج إلى خلقه سبحانه ليعبدوه، فلن يزداد بعبادتهم شيئاً ولن ينقص بكفرهم شيئاً، ولكن خلقهم لنفعهم ولما فيه صلاحهم إن هم أطاعوه سبحانه.
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين) هذا أصل الإنسان، والإنسان هنا هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهذا أصله أنه كان عدماً كان ماء وطيناً، فأوجد الله عز وجل منه هذا الخلق، وتركه من صلصال من طين ومن حمأ مسنون فترة، ثم نفخ فيه الروح سبحانه وتعالى، فكان أصل هذا الإنسان من سلالة من طين، قالوا: السلالة بمعنى: الصفوة، فكأن المقصود منه مني الإنسان، وقيل: السلالة من السلة واستخراج الشيء من الشيء، ولذلك الطين إذا أمسك بين الأصابع تسرب من بين أصابع الإنسان، فهو سلالة وخلاصة من شيء، أو شيء من طين، أي: ماء وتراب، بُلّ التراب فصار طيناً، فهذا الإنسان مخلوق من هذا الطين الذي لو أمسكته بين أصابعك وهو تراب وماء ما قدرت على جمعه، بل يتسلل من بين الأصابع، وقيل: النطفة سلالة، والولد سليل، أي: مأخوذ من هذه السلالة وما تفرع عنها، والطين أيضاً إذا عصرته بين أصابعك انسل وخرج منها، فالأصل أن الإنسان من سلالة من طين ثم صار إنساناً.
والإنسان عندما يمر بهذا الطين الذي يسيل في الشارع تراه يجتنب أن يصل إلى ثيابه منه، نقول له: هذا هو أصلك أنت، وأنت مخلوق من هذا الطين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين).