فهذا الفلاح الذي ذكره الله في الآية الأولى يحصل بأن يكون الإنسان خاشعاً في صلاته: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، وكلمة (خشع) معناها: رمى ببصره نحو الأرض، وغض بصره، أي: وقف وقفة الإنسان الذليل بين يدي الله عز وجل، فلم يرفع بصره إلى السماء لينظر إليها، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما جاء في الحديث: (لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء، أو لتخطفن أبصارهم)، يعني: احذر أن ترفع بصرك إلى السماء وأنت في صلاتك، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى سوف يخطف بصرك ويعميك.
فاحذر من رفع البصر إلى السماء وأنت تصلي أو تقرأ القرآن، أو وأنت تقنت وتدعو ربك، بل لابد أن يكون بصرك إلى الأرض.
وقد قيل: إن الصحابة رضي الله عنه الله عنهم كانوا يصلون ويرفعون أبصارهم إلى السماء، فنزلت هذه الآية: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، فرموا بأبصارهم إلى الأرض، فهذا أصل الخشوع، يقولون: خشع بصره، أي: انكسر بصره، أي: تواضع ولم يرفع بصره، ولكنه وضعه في الأرض.
وقالوا: اختشع الإنسان، بمعنى: طأطأ رأسه وتواضع، فالمؤمن متواضع لله سبحانه، يطأطأ رأسه ويخفض بصره بين يدي الله سبحانه، وقيل: الخشوع قريب من الخضوع، إلا أن الخشوع يكون في البدن، وهو إقرار باستخذاء، والخشوع يكون في البدن والصوت والبصر، فالخشوع يكون في البدن، بأن يكون الشخص واقفاً فارداً نفسه في الصلاة، متواضعاً لربه سبحانه وتعالى، ففرق بين أنه يصلب قامته ويقف مستقيماً في صلاته، وبين أنه فارد صدره في الصلاة، فالمؤمن يكون واقفاً في الصلاة وقفة المتواضع لرب العالمين سبحانه، ويكون الخشوع في الصوت بألا يرفع صوته ولا يصيح في الصلاة، ولكن إذا كانت الصلاة جهرية فصوته تظهر عليه السكينة، ويظهر فيه الخشوع، ومن سمعه يحسب أنه يخشى الله، وهذا من أفضل الناس صلاة، أي: الذي إذا سمعت تلاوته تحسب أنه يخشى الله سبحانه وتعالى، وليس لكونه يحزن في الصلاة، أو يتغنى ويترنم ترنيمة حزينة، وإنما الصوت فيه دليل الخشوع، صوت فيه تواضع وفيه خشوع لله رب العالمين، فليس المقصود النغمة فقط.
فالخشوع قريب من معنى الخضوع، فيه يطأطئ رأسه ويتواضع، ويخفض صوته وبصره، فالخشوع يكون في البدن والصوت والبصر، قال الله عز وجل: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم:43]، وقال سبحانه: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108].
والخشوع أيضاً يأتي بمعنى الخضوع، والتخشع: تكلف الخشوع لله سبحانه وتعالى والإخبات والتذلل، وأيضاً يأتي بمعنى: السهولة، وبمعنى: اليبس، قالوا: أرض خاشعة، أي: أنها تثيرها الرياح لسهولتها فتمحو آثارها، ومنه قوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت:39]، أي: متغبرة، متهشمة، يابسة، لا حياة فيها، ثم ينزل عليها الماء فيحييها الله سبحانه وتعالى.
فعلى المؤمن أن يكون خاشعاً في صلاته، روى الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس)، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه فرفع بصره إلى السماء، ثم قال لهم: (هذا أوان)، أي: حال سيأتي، مع أنهم ما زالوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما زال العلم يأتيه من السماء، ولكن كأنه قرب رحيله صلوات الله وسلامه عليه، فيبتدئ الأمر يقل بعد ذلك قرن وراء قرن إلى أن يضيع من الناس أمر دينهم، وجاء في الحديث الآخر: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، وإنما يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء)، فقال رجل من الأنصار كان على فقه وعلم، واسمه زياد بن لبيد الأنصاري: (كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرأنه نساءنا وأبناءنا!)، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف يضيع منا هذا العلم ونحن قد حفظنا القرآن، وسنحفظه أولادنا ونساءنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة)، المعنى: أنه طالما أن الأمر أمر كوني قدري، وأن الله عز وجل قدر ذلك، فليس من الممكن إلغاء ما قاله الله سبحانه، مهما حفظ الإنسان ومهما عمل.
فهنا الرجل حباً في القرآن وحباً في الدين، وإظهاراً للمسارعة في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم قال: سنحفظ القرآن، وسنحفظه أولادنا ونساءنا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه بالشيء الآخر: أن الله عز وجل إذا قدر شيئاً فليس من الممكن أن يرفع ما قدره سبحانه، قال له صلى الله عليه وسلم: (إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟!)، يعني: حتى لو أنكم حفظتم القرآن، ولكن إذا ضيعتم الخشوع فماذا يغني عنكم؟! قال جبير -راوي الحديث-: (فلقيت عبادة بن الصامت، فقلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع)، وكأن الخشوع ليس مجرد كلمة يقولها الإنسان، ولكنها علم يتعلم فيه كيف يخشع بدنه وصوته وبصره لله سبحانه وتعالى، يقول رضي الله عنه: (أول ما يرفع من الناس علم الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً)، أي: يرفع الخشوع فيقف الإنسان في الصلاة وهو يفكر بأمور الدنيا، والثاني يلعب بذقنه، والثالث ينظر شمالاً ويميناً، والرابع يترك الصلاة ويمشي وهكذا، فكل واحد منشغل في حاله بعيداً عن أمر الصلاة، وهذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، إذاً: هم في صلاتهم خاشعون، أي: في أثناء الصلاة، وفي سورة المعارج قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]، فهم يواظبون على صلاتهم وخاصة صلاة الجماعة، لا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وهم كذلك خاشعون في صلاتهم، فهنالك قال: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]، وهنا قال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2].