الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:29 - 35].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أنه صرف مجموعة من الجن يستمعون القرآن من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كان في مكة بعد موت أبي طالب، وموت خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ازداد ابتلاء الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، وازداد أذى المشركين له، فخرج يدعو أهل الطائف فتلقوه بما ذكرنا في الحديث السابق، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان اسمه نخلة، وهنالك ساق الله عز وجل إليه مجموعة من الجن فاستمعوا منه القرآن، وصدقوه، ورجعوا إلى قومهم ليبلغوهم وينذروهم، فقالوا: ((يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)).
إنه كتاب عظيم جاء من بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وفيه شريعة من الله كما كان كتاب موسى فيه شريعة من الله سبحانه وتعالى، مصدقاً الكتب السابقة، وللرسل السابقين عليهم الصلاة والسلام.
وقوله: (يهدي إلى الحق) أي: يدل على طريق الله سبحانه، وإلى الحق الذي يريده الله، كما يدل على الإله الحق المعبود سبحانه وتعالى، ويهدي إلى طريق مستقيم، أي: طريق الشريعة الموصل إلى جنة الله عز وجل.
قال الله تعالى عن الجن أنهم قالوا لقومهم: ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) فالجن يدعون قومهم ويقولون: يا قومنا، والرسل يدعون أقوامهم ويقولون: يا قومنا، وهذه الكلمة فيها ما فيها من اللطف بمن تدعوه، فحين تقول للإنسان: يا إنسان! افعل كذا، فقد يستشعر أنه شيء وأنت شيء آخر، وحين تقول له: يا أخي! أو تدعو المجموعة: يا قومنا! فإن هذا يجعلهم يألفون من يدعوهم، ويحسون أنه يخاف عليهم من عذاب الله سبحانه.
قال الله تعالى: {قَاْلُوْا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} فبدءوا بالدليل النقلي قبل مخاطبة العقل، فالنقلي: أنه كتاب جاء من عند الله عز وجل سمعناه ولم نقله من عندنا، وقد جاء من بعد موسى على محمد صلوات الله وسلامه عليه، ووجدناه يهدي ويدل على الطريق المستقيم وإلى الجنة.
وقوله: (يا قومنا أجيبوا داعي الله) أي: ما جاءكم من عند الله سبحانه، واسمعوا وعوا كلام رب العالمين.
وقوله: (وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم) فيه أن الذي يدخل في دين الله عز وجل الله فإنه يغفر له من ذنوبه، وكأن (من) هنا للدلالة على جنس الذنوب، وليس المقصود بها بعض الذنوب فقط، فالإسلام يغفر به الله عز وجل جميع الذنوب، ويجب ما كان قبله من الكفر والمعاصي بشرط الإحسان في الإسلام، فلو أن إنساناً كان كافراً سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً، أو في أي ملة من الملل غير الإسلام ثم أسلم وتاب وآمن وعمل صالحاً فالله يغفر له جميع ما فعله قبل ذلك، ولكنه لو أسلم ولم يعمل صالحاً، ولم يستمع لما يقوله الله سبحانه فقد تنفعه كلمة التوحيد يوماً من الدهر، ولكنه قد يؤاخذ على كل ما عمل من ذنوب قبل الإسلام وبعده، فلابد أن يحسن في الإسلام، فيصلي ويصوم ويزكي ويفعل الطاعات ويمتنع من المعاصي، وهذا الذي جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أسلم فأحسن غفر الله عز وجل له ذنوبه، ومن أسلم ولم يحسن أخذ بالأول والآخر) أي: بالذي فعله قبل ذلك والذي يفعله بعد إسلامه؛ لأنه لابد للإنسان المسلم من أن يظهر عليه أثر الإسلام، وإن كانت كلمة التوحيد وهي العهد والميثاق الذي بينه وبين الله عز وجل لا تجعله خالد مخلداً في نار جهنم كالكفار، ولكنه قد يستوجب النار والعذاب إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى، ثم يخرج منها إلى الجنة.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الجن وإلى الإنس وإلى جميع الخلق، فدعاهم صلى الله عليه وسلم فاستجابوا له.