ذكرنا أن هذا الذي قال لوالديه: {أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} [الأحقاف:17]، وصفه الله عز وجل بأنه خاسر، وأنه حق عليه عذاب الله عز وجل، فلا يكون هذا الوصف في إنسان مسلم أبداً، وإنما يكون في إنسان كافر، فمن زعم أن هذه الآية نزلت في إنسان مسلم، فقد كذب بذلك.
وقد افترى هذا القول مروان بن الحكم بن أبي العاص من بني أمية على ابن لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقال ذلك كذباً وزرواً، فكذبته عائشة رضي الله عنها، وأقسمت أن هذه الآية ليست فيهم، وأنها تعرف من الذي نزلت فيه هذه الآية، وقلنا ذلك لئلا يغتر بما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره عندما قال: لا مانع من أن تكون نزلت فيه ثم أسلم بعد ذلك، فهذا قول خاطئ، ولذلك فشيخ المفسرين ابن جرير الطبري، وكذلك ابن كثير وغيرهم من المفسرين ينكرون أن يكون قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18]، في رجل مسلم قد أبلى بلاءً حسناً في الإسلام، وكان من أفضل الناس.
والذي قال عليه ذلك كذب عليه؛ يريد أن يشوه صورته بين الناس، وكان سبب ذلك أن مروان كان أميراً لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فأراد معاوية أن يولي ابنه يزيد الخلافة، وأراد له البيعة في حياته، فقام مروان في المسجد وخطب في الناس، وقال: إن معاوية قد رأى رأياً حسناً في يزيد، وأن يستخلفه عليكم فقد استخلف قبل ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، -وهذا القول كذب-، فكذبه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أمام الناس، فقال: أهرقلية؟ استخلف أبو بكر الصديق ولم يستخلف أحداً من أبنائه، واستخلف عمر بن الخطاب ولم يستخلف أحداً من أبنائه، فكيف تقول: إن معاوية استخلف كما استخلف أبو بكر وعمر؟! ففعْل معاوية مخالف لما فعله أبو بكر وعمر، فالذي فعله أبو بكر وعمر كان رحمة بالأمة، والذي فعله معاوية كان رحمة بابنه رضي الله عن الجميع، فـ معاوية اختار الملك، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (تئول الخلافة إلى ملك عضوض) فكان بدء الملك العضوض أن معاوية استخلف ابنه فبقى الأمراء من بعده يستخلفون أبناءهم، فلما أنكر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه على مروان بن الحكم، أراد أن يسيء إليه فلم يجد إلا القرآن، من أجل أن ينفر الناس من حوله، فقال له: ألست الذي قد قال الله عز وجل فيه كذا؟ فافترى أن هذه الآية نزلت فيه، فلما قال ذلك كذبته عائشة من وراء حجابها رضي الله عنها، فسمع الناس لما قالته عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فقالت: والله؛ لأنا أعلم فيمن نزلت هذه الآية، يعني: لو شاءت لحدثت، ولكنها سترت وكتمت ولم تقل شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فتغيظ مروان وأراد أن يسجن عبد الرحمن بن أبي بكر ويأخذه، فدخل إلى بيت عائشة فلم يقدر عليه.
فـ عبد الرحمن بن أبي بكر من أفاضل المؤمنين رضي الله عنه، وقد قام فقال قول حق، فإذا بهذا الرجل يتهمه بهذا الشيء ويقول عنه ذلك.
فالغرض أن الآية نزلت في إنسان كافر عاص لله سبحانه، وصفه الله عز وجل بأنه مستحق للعذاب، وأنه كان من الخاسرين، قال تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)) أي: سبق في علم الله عز وجل ذلك، فاستحقوا الهوان والخسران، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.