من خصائص هذه السورة أنه سبحانه يشير فيها إلى إعجاز هذا القرآن العظيم، وأنه منزل على النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فيها الاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرة الله سبحانه، وأنه وحده هو الذي يستحق أن يعبد، فالذين يدعون من دون الله يعرفون أنهم جماد، وأنهم لا ينفعون ولا يضرون، وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، فمن الذي يستحق أن يعبد؟! هل يعبدون هذه الآلهة الباطلة وهي لا تملك لنفسها شيئاً، أم يعبدون الله الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل على عبده الكتاب بالحق؟! إذاً: فهنا استدل بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالألوهية، وأنه الخالق الرب الذي يخلق ويفعل ويصنع ويقدر سبحانه، فهو وحده الذي يستحق أن يعبد.
وكذلك فيها إثبات جزاء الأعمال، فالله عز وجل خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق وأجل مسمى، وبعد هذا الأجل يحاسب الناس على ما صنعوا وعلى ما قدموا في هذه الدنيا.
وكذلك فيها الإشارة إلى البعث بعد الموت.
إن هذه السورة سورة مكية نزلت على قوم كلهم مشركون يعبدون غير الله سبحانه وتعالى، فنزل القرآن يدعوهم إلى عبادة الله، وإلى أن يتفكروا ويعقلوا، وكأنه يقول لهم: انظروا ماذا في السماوات والأرض، {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101].
وفيها إثبات رسالة النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10] أي: فشهد عبد الله بن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه نبي، وأن هؤلاء اليهود يكذبونه مع معرفتهم له عليه الصلاة والسلام.
وفيها أيضاً الثناء على المؤمنين الذين آمنوا بالله سبحانه، وذكر خصالهم الحميدة، وكيف أن الإنسان المؤمن يدعو ربه، فيعلمه الله عز وجل أن يقول: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
وفيها أيضاً بيان الأخلاق الحميدة وخاصة في رعاية جانب الوالدين، ووصية الله عز وجل بالوالدين والإحسان إليهما قال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى} [الأحقاف:15]، فذكر الله عز وجل ما يرقق به قلب الإنسان على والديه.
وكذلك في هذه السورة العظيمة يذكر بما حدث من الأمم السابقة من كفر بالله سبحانه وتعالى، وخاصة قوم عاد، وهم أصحاب الأحقاف، وكيف أهلكهم الله عز وجل بالريح العقيم التي أرسلها عليهم.
وكذلك هذا القرآن إن لم تؤمنوا به فغيركم يؤمن به، وقد استمع الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجاءوا إليه مسرعين، فاستمعوا إلى هذا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، قال تعالى حاكياً عنهم: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:30 - 31]، فالجن بلغت وعملت ما عليها.
فالجن حين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم من سورة الرحمن مدحهم صلى الله عليه وسلم، فقال للصحابة وقد تلاها عليهم فسكتوا: (مالي أراكم سكوتاً! للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:16]، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد)، فحمدوا ربهم، وأثبتوا أن الله عز وجل وحده الذي يفعل كل شيء وخير، وفضل، فهو الفعال لما يريد، ولا يكذبون بشيء من نعم الله سبحانه وتعالى.
وقد بدأ ربنا هذه السورة بقوله سبحانه: ((حم))، وكما ذكرنا قبل ذلك في الست السورة السابقة أن (الحاء) حرف، و (الميم) حرف، وكذلك كل ما كان في فواتح السور، ولذلك كان أبو جعفر إذا قرأها يقرأ (ح) ويسكت، (م) ويسكت، لبيان أن هذه ليست كلمة، وإنما ذا حرف وذا حرف، وكذلك إذا قرأ: {الم} [آل عمران:1]، {كهيعص} [مريم:1]، {حم} [الأحقاف:1]، {عسق} [الشورى:2]، {طه} [طه:1]، {يس} [يس:1]، لبيان أن هذه ليست أسماء وإنما هي حروف مقطعة، وذكرنا قبل ذلك أن الحاء تمد مداً طبيعياً حركتين، وأن الميم تمد مداً طويلاً ست حركات، والحاء أيضاً فيها قراءات كما ذكرنا قبل ذلك: فيها الإمالة، يقرؤها ابن ذكوان ويقرؤها شعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف فيقرءون (حِ) بالإمالة ويقرؤها ورش وأبو عمرو بخلفه بالتقليل، يعني: بين الفتح وبين الإمالة، ويقرؤها باقي القراء (ح) بالفتح، ففيها ثلاث قراءات.