قال سبحانه: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7] ويل عذاب أليم، أو واد في قعر جهنم لكل أفاك، والأفاك من الإفك، والإفك: أعظم وأشنع الكذب والافتراء، وذلك حين يتحدث الإنسان فيكذب ثم يفتري على غيره فيأفك، فهذا الأفاك يبهت غيره ويفتري عليه بما يجعل هذا الذي يسمع يتعجب مما يقوله؛ لأنه كذب عظيم جداً؛ ولذلك ربنا سبحانه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] والإفك: أعظم الكذب، كذبوا وافتروا على السيدة عائشة كذباً عظيماً شنيعاً بشعاً يجعل من يسمعه لا يتخيل أنه يوجد إنسان يقول مثل هذا الكلام الكذب والكلام الإفك.
فويل لهذا الأفاك، وأعظم ما يكون الافتراء على الله عز وجل، وذلك حين يقول الإنسان: الله قال: كذا، والله لم يقل ذلك أصلاً فيفتري على الله سبحانه هذا الإفك، فالأفاك يعني: الكذاب العظيم من الكذب والافتراء، وإن كان الناس غيروا هذه الكلمة إلى أفاق، وهذا خطأ في اللغة، فالأفاق من الآفاق، يقال: آفاقي يعني أتى من الآفاق من بعيد، لكن الأفاك: الكذاب المفتري الأثيم الذي يختلق الشيء وهو غير موجود.
قال سبحانه: ((وَيْلٌ)) أي: عذاب أليم لكل إنسان عظيم الكذب يكذب على الخلق ويكذب على الخالق سبحانه.
وقوله تعالى: ((أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)) أي: مكتسب للإثم بما يصنع وبما يقول.
هذا الأفاك الأثيم من صفاته: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:8].
فقوله تعالى: ((يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ)) أي: يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليه القرآن ويدعوه إلى الله عز وجل.
قال: ((ثُمَّ يُصِرُّ)) أي: يعاند وكأنه لم يسمع شيئاً.
يقال له: ما الذي سمعت؟ يقول: لم أسمع شيئاً.
ما الذي فهمت؟ يقول: لم أفهم شيئاً، يقول: هذا مجنون.
فيفترون على النبي صلى الله عليه وسلم ويفترون على الله سبحانه تبارك وتعالى، ويكذبون، فويل لهذا الكذاب، الذي يجعل نفسه كأنه لم يسمع شيئاً ولم يعلم شيئاً، فإذا سمع آيات الله عز وجل وهي تتلى عليه يصر ويعاند ويبقى على ما هو فيه من كفر متعظماً في نفسه.
فقوله تعالى: ((يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا)) يعني: كأنه في نفسه أعظم من أن يقبل هذا الكلام أو يدخل في هذا الدين العظيم.
فقوله: ((كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)) كأنه لم يسمع هذه الآيات.
فقال الله تعالى: ((فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) والأصل في البشارة: الإخبار بشيء مغيب قد يسر وقد يسوء، لكن الغالب في اللغة: أنه لا تطلق البشارة إلا على الخبر الذي يسعد ويسر، إلا أن تأتي مقيدة بشيء بعدها فتدل على العكس في ذلك.
فهنا يتنزل هذا المعنى على وجهين: فبشر هذا الإنسان الذي تهكم واستهزأ بمصيبة سوداء ستحل به؛ لأنه مكذب بآيات الله.
فالله سبحانه يسخر من هذا الإنسان؛ لأنه يسخر من آيات الله، أو على أصل معنى البشارة، بمعنى: الإخبار بما غاب عنك بما يغير بشرتك، فالتبشير: إخبار بالشيء الذي يغير بشرة جلد الإنسان، فالإنسان حين يخبر بالشيء الذي يسره يضحك وتتغير بشرته، ويحمر وجهه، ويتورد وتظهر عليه آثار الانبساط والسرور، فبشرة الإنسان تتغير بالشيء الذي يسر الإنسان.
والعكس كذلك إذا أخبر بما يسوءه {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58].
إذا أخبر الإنسان بمصيبة ستحدث له يخاف ويتضايق وينزعج ويظهر على تباشير وجهه هذا الأثر، كأن البشارة الإخبار بما يغير هيئة بشرة الإنسان ووجهه، فكأن الله يقول له: انتظر ما يسوءك من عذاب أليم.
فقوله تعالى: ((فَبَشِّرْهُ)) أي: أخبره بما سيسوءه بعد ذلك من عذاب مؤلم موجع.
ومن صفات الأفاك: ((وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا)) أي: إذا علم وعرف أن كلام رب العالمين حقيقي اتخذه هزوا.
فقوله تعالى: ((اتَّخَذَهَا هُزُوًا)) تقرأ بالواو، يقرأها حفص فقط عن عاصم.
وباقي القراء كلهم يقرءونها بالهمزة على أصلها (هزءاً) ما عدا حمزة فيسكن الهمز إذا وقف عليها ويقول: (هزء).
فالقراءة الأخرى: (إذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزءا) أي: يستهزئ بكلام رب العالمين سبحانه.
قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ)) المكذبون الأفاكون ((لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)).
إذاً: له عذاب أليم مؤلم موجع، وله عذاب يهينه؛ لأنه أهان كلام الله، وأهان رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فاستحق الهوان واستحق الإهانة يوم القيامة، وأن يحقره الله عز وجل.
ولذلك يرى الكافر يوم القيامة في نار جهنم وهو أحقر من الذر مثل أصغر من النمل، والكفار ينادون ربهم سبحانه كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] أي: ندوس عليهم بأقدامنا الذين أضلونا في الدنيا، هذا تحقير لهم وإهانة لهم في نار جهنم والعياذ بالله، فهم اتخذوا آيات الله هزواً فاستحقوا أن يهينهم الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة.