تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين)

قال سبحانه: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان:33] أي: آتينا بني إسرائيل من الآيات والحجج والبراهين الكثيرة، وذلك عندما أرسل الله عز وجل إليهم موسى فقال: أنا رسول من رب العالمين، فآتاه الله آيات كثيرة تدل على أنه رسول من عند الله عز وجل، آتاه آيات حسية؛ لأن بني إسرائيل لا يؤمنون إلا بما يرونه أمامهم، وأما الإيمان بالغيب فإنهم يؤمنون به تارة ويكفرون تارات كثيرة، ولذلك رأينا كيف أنهم لما أمروا أن يسجدوا لله سبحانه لم يسجدوا ولم يطيعوا، وإذا بالله عز وجل يرفع الجبل فوق رءوسهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم، وعند ذلك سجدوا لله عز وجل، ويقال لهم: ادخلوا الباب سجداً، فيدخلون وهم يستهزءون بما قيل لهم، {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58]، فدخلوا وبدلاً من أن يسجدوا على رءوسهم أخذوا يزحفون على إستاتهم وعلى مقاعدهم استهزاء بما قاله الله عز وجل.

ثم قال لهم: قولوا حطة، أي: يا رب! حط عنا خطايانا، فقالوا: حنطة، يحرفون ويستهزءون بكلام رب العالمين، فهؤلاء هم بنو إسرائيل لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم فيما يصنعون، فليس هؤلاء الذين هم اختارهم الله عز وجل، وإنما اختار الموحدين المؤمنين الذين اتبعوا موسى النبي صلوات الله وسلامه عليه، فآمنوا به وكانوا معه، فاجتباه واصطفاهم الله واختارهم على العالمين.

وآتينا الجميع من الآيات التي تدل على أن موسى رسول من رب العالمين، كاليد، والعصا، وما أرسله الله على فرعون وقومه: {فأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، وقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]، فهذه تسع آيات بينات ليعلموا وليوقنوا أن هذا رسول من رب العالمين، وأن الله ناصر عباده المستضعفين.

قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ} [الدخان:33]، كذلك آيات النعم على بني إسرائيل، فأنعم الله عز وجل عليهم بالآيات وأنزل المن والسلوى عليهم، وإن كانوا في التيه لكن الله عز وجل يمن وينزل ما يشاء سبحانه وتعالى، وقد أخبر الله عز وجل أنه ابتلاهم، والله عز وجل يبتلي عباده بالخير ويبتليهم بالشر، كما قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} [الأنبياء:35]، فالشر في نظركم وإلا فكل ما يأتي من عند الله عز وجل فهو خير، ولكن العبد حين يبتلى بالمصيبة يستشعر الشر من ورائها، وإن كان الله له حكمة عظيمة في كل ما يصنعه.

وقال: هنا: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ} [الدخان:33] أي: امتحان واختبار، {مُبِينٌ} [الدخان:33]، أي: بيّن واضح، فامتحنهم الله عز وجل لينظر هل يثبتون على الإيمان أم يكفرون، فكانوا يتقلبون: فيؤمنون حيناً ويكفرون أحياناً.

فنبلوهم بالخير ونبلوهم بالشر، نبلوهم بالخير فأنزلنا عليهم المن والسلوى، ونهاهم نبيهم أن يدخروا شيئاً، فكلوا من طائر السلوى ما شئتم، ولا تدخروا شيئاً، وكذلك المن الذي ينزل من الأشجار، فكلوا من العسل ولا تدخروا شيئاً، فابتلاهم الله بالخير، وأعطاهم من الخير الكثير، فإذا بهم يطلبون: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61]، فيريدون فولاً وعدساً وثوماً، فقد ملوا اللحم والعسل، فابتلاهم الله بالخير فلم يصبروا، وقيل لهم: لا تدخروا، فادخروا اللحم، فخالفوا أمر الله عند ذلك، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل ادخروا اللحم ففسد؛ لأنهم إنما أمروا أن يأكلوا ولا يدخروا شيئاً، فكان الله يبتليهم ويمتحنهم، فلم يثبت منهم على الحق إلا القليل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015