إذاً: يرسل الله رسولاً من السماء وهو جبريل عليه السلام إلى من يشاء من أنبيائه، (فَيُوحِيَ) وأيضاً الوحي فيه الإخبار، ومنهم من يعطيه الله عز وجل ذلك وينزله عليه خاصة دون غيره، إذاً: فيه خفاء عن الغير، فيأتي جبريل فيكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يراه أحد، يكلمه ويسر إليه صلى الله عليه وسلم ولا أحد يطلع على ما يقوله، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم من حوله.
ولذلك جاء في حديث عن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو: عثمان بن مظعون، يقص أنه أسلم قديماً في أيام مكة، ولكن كان إسلامه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد مر به وهو جالس بفناء بيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تجلس؟ قال: بلى، فجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الله عز وجل، فجلس يسمع حياء من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يشخص ببصره إلى السماء، أي: يرفع بصره عليه الصلاة والسلام إلى السماء ثم ينزل به حتى نزل إلى الأرض، ثم انحرف عني يميناً -أي: كان جالساً مع عثمان بن مظعون يحدثه صلوات الله وسلامه عليه، ثم انحرف عنه، وتركه- قال: وإذا به ينغض رأسه وكأنه يستفقه شيئاً ويسمع، فلم يزل كذلك حتى رفع بصره بعد ذلك، ولم يزل يصعد به إلى السماء، ثم التفت إلي بعد ذلك.
قال: فتعجبت، قلت: إنك صنعت شيئاً ما كنت تصنعه، قال: وفطنت لذلك؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: شخصت ببصرك إلى السماء ولم تزل تنزل به، ثم كأنك تستفقه من أحد عن يمينك، قال: ذاك جبريل أتاني آنفاً، فأخبرني بهذه الآية -وهي الآية التي أحبها عثمان بن مظعون رضي الله عنه- قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]) فلما سمعها ابن مظعون فرح بهذا الدين، قال: وهذا أول ما استقر الإيمان في قلبي، قال: كان قبل ذلك يستحي من النبي صلى الله عليه وسلم، أما الآن فقد استقر الإيمان في قلبه حين سمع هذه الآية العظيمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] قال: فدخل حب محمد صلى الله عليه وسلم في قلبي، ثم قال: فأخبرت بها الوليد بن المغيرة، فقال الوليد: ما تقول يا ابن أخي؟ فتلاها عليه مرة ثانية، قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر! هذا قول الوليد بن المغيرة لما سمع هذه الآية.
فالغرض أن الوحي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وعثمان بن مظعون قاعد، ولم ير جبريل وهو يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان الصحابة يعرفون مجيء الوحي بالتفات النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، يكون جالساً معهم وفجأة يلتفت عنهم، ويعتريه كالحر الشديد، فيتفصد عرقاً صلوات الله وسلامه عليه، وقد يحدث له رعدة عليه الصلاة والسلام، ويصقل بدنه صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يرون من يخاطب صلى الله عليه وسلم، فهذا وحي من الله يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانوا يقولون: ترى ما لا نرى، وتخاطب من لا نخاطب، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا الوحي الذي هو إلقاء من الله عز وجل يلقي عليه الكتاب العظيم، وينزل عليه جبريل ويخبره بأحكام شرعية عظيمة، وهذا كله في خفاء عن الناس، لا أحد يرى من الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ماذا يقوله جبريل، ثم هو يخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك.
إذاً: هذا الوحي رسول من السماء يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيوحي بإذن الله ما يشاء، والعادة أن الذي ينزل من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذي ينزل على الأنبياء قبله، ولكن قد ينزل الله عز وجل ملكاً آخر على النبي صلى الله عليه وسلم، مثلما نزل ملك من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخبره جبريل أنه فتح باب من السماء، وهذا الملك أول مرة ينزل من السماء إلى الأرض، وقد نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه بشيء من السماء، فهذا يكون أحياناً.
فالأصل: أن جبريل هو الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بما يريده الله عز وجل وبما ينزل عليه من هذا القرآن العظيم.
قال تعالى: (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) أي: بإذن الله عز وجل (مَا يَشَاءُ) يوحي ويخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بإذنه ما يشاء، (إنه عليُّ حكيم) سبحانه وتعالى، وله علو الشأن وعلو القهر وله علو الذات سبحانه وتعالى، علا على كل شيء، وغلب كل شيء، وقهر كل شيء، وشأنه عظيم وأعلى من أن يحاط به سبحانه وتعالى.