الأمر الثالث الذي يقسم عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)، أي: أن الإنسان المتواضع ينكر الناس عليه ويقولون له: لماذا تلبس لباس الفقراء؟ ولماذا تمشي على قدميك؟ ولماذا؟ ولماذا؟ فينظرون إليك على أنك هاضم لنفسك، ولكن النظرة عند الله عز وجل أنك إذا تواضعت لله يرفعك الله سبحانه وتعالى، ولا تظن أنك سترتفع في الدنيا بتطاولك على الناس واستكبارك عليهم، بل هذا الترفع على الخلق يجلب من الناس العداوة والبغض، وهو أسرع طريقة لأن يكرهك الناس، وأسرع طريقة لأن يحبك الناس هي أن تتواضع لهم، وأن توافقهم في الصواب؛ ولذلك كانوا يسألون قيس بن عاصم: لماذا يحبك الناس؟ فقال: لو امتنعوا عن شرب الماء لامتنعت عنه، ومستحيل أن يمتنع أحد عن شرب الماء، وليس مقصده ذلك، وإنما المقصد عدم المخالفة.
وإياك أن تنظر لنفسك وترفعها، فما رفع الإنسان نفسه إلا وضعه الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك تواضع، فإذا كنت في مجلس مع الناس وقيل لك: اجلس، فاختر المكان المتواضع لتجلس فيه، ولا تختر أعلى الأماكن وتجلس فيها، فإذا فعلت ذلك لعل الناس يتركونك مرة، ولكن لن يتركوك دائماً في ذلك، وقد نهاك النبي صلى الله عليه وسلم أن تجلس على مكرمة إنسان إلا بإذنه، فإن استضافك أحد عنده في بيته، وأدخلك غرفة الجلوس، فلا تجلس حتى تسأل عن مكان جلوسك؛ فلعلك تجلس في مكان لا يرغب رب الدار أن تجلس فيه.
فهذه آداب عظيمة يعلمناها الإسلام العظيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد رفعه الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة وكرمه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن).
والتواضع: هو أن ترى نفسك وضيعة، وأنها أقل من الغير، فبهذا يرفعك الله سبحانه وتعالى، أما إذا نظرت إلى نفسك بأنها أعلى من الغير وأحسن منهم، فيأبى الله أن يدوم لك هذا النظر، فيريك أنك أقل من الناس ويبتليك بمرض، فيجعلك تحتاج للدكتور وتحتاج للناس، فتجد نفسك قد احتجت لهؤلاء الذين كنت تستغني عنهم.
والله عز وجل جعل بعضكم يحتاج إلى بعض، فأنت اليوم معك مال ولا تدري بكوارث الأيام ومصائبها؛ لذلك تواضع لله.
ولا تستكبر بوظيفتك، فإن الوظيفة لا تدوم، واعلم أنك مهما عاملت به الناس أثناء غناك أو وظيفتك فإنهم سيعاملونك حين فقدك، فإن تواضعت لهم رفعوك، وإن تكبرت عليهم تركوك وأهملوك، وانظر إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، فلقد كان يخرج بين الناس ويمشي بينهم، وينام في الطريق، ولقد نام مرة تحت شجرة، فأتى رجل من بلاد الفرس يبحث عن عمر فدل على مكانه تحت الشجرة، فلما أتى إليه ووجده نائماً قال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر.
فالإنسان الذي يعدل في الدنيا يحبه الخلق، وفي الآخرة يجعله الله سبحانه وتعالى على منبر من نور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة).