يقول البخاري رحمه الله: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم: فكان الأمين من أهل العلم لا يرضى أن يفتي السلطان بما حرم الله فيبيح ما حرم الله، ولكن يفتي بما أحل الله عز وجل، وأي حكم ليس فيه دليل على المنع الأصل فيه الجواز، فيفتون للخلفاء بما قال الله وبما قال النبي صلى الله عليه وسلم وبما هو مباح في الأمر الدنيوي، من غير أن يتعرضوا لأمر حرمه الله فيحلونه، ولا لأمر أحله الله فيحرمونه.
قال البخاري: ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؟) لاحظ فقه الإمام البخاري رحمه الله فيما نذكره؛ إذ يسوق القول الذي يختاره هو، ثم يدلل عليه بالدليل، والإمام البخاري فقيه محدث رضي الله تبارك وتعالى عنه، فأنت تأخذ فقه البخاري من تراجمه، ففي صحيح البخاري ترجمة الباب وعنوان الباب كذا، وقد يكون العنوان كلمة أو كلمتين، وقد يكون العنوان صفحة كاملة، ومن هذا العنوان الذي يذكره البخاري تعرف فقه البخاري واختيار البخاري في صحيحه، أو من الأقوال ما يعمم به في الباب.
فهنا يذكر القول وبعده الدليل، فقد بدأ بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] واختار أن المشاورة قبل العزم والتبين، أي: أنك تستشير، وقبل الاستشارة الاستخارة قبل أن تجزم وتقطع، ثم تستشير الناس بعد ذلك ثم تعزم على الشيء، فالاستشارة قبل العزم، قال: لأن الله عز وجل عقب ذلك بقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] إذاً: إذا استشرت الناس وعزمت على شيء بعد ذلك، فالاستشارة تكون قبل العزم، وهذا دليلهم.
وإذا عزم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء وقطع عليه، فليس له أن يرجع عن ذلك، قال تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله)، والسنة أيضاً تفيد ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد لما عزم على الخروج بعد الاستشارة أرادوا الرجوع في ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله).