وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلنا على ذلك بفعله وهو القدوة الحسنة العظيمة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] يأتي إليه ورجل يقول: (يا محمد! أعطني من مال الله لا من مالك ولا مال أبيك، ويلببه بردائه)، أي: يخنق النبي صلى الله عليه وسلم بقميصه، ويا ترى هذا الإنسان الذي يفعل هذا الشيء هل يستحق أن أحداً يعطيه شيئاً؟! ويقول: يا محمد، ولا يقول: يا رسول الله، أو يا نبي الله.
ولكن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (اترك ردائي، أعطوه من مال الله) ويصفح عنه صلوات الله وسلامه عليه ويأمر بإعطائه ويضرب بذلك المثل القدوة، ولو أنه زجره لاستحق ذلك، ولو غير النبي صلى الله عليه وسلم زجره لاستحق ذلك ولا لوم عليه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يؤدبه ربه ويجعله أسوة يكظم غيظه ويصبر طاعة لله، ويأمر لهذا الإنسان بالعطاء.
وجلس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع مجموعة من المشركين يدعوهم إلى الإسلام، وأثناء ذلك يأتي رجل ويقول: (يا رسول الله! علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، فعبس النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: قطب وجهه، وعبس صلى الله عليه وسلم، كأنه يتمنى منه الصبر عسى الله أن يهدي هؤلاء.
ولو أن إنساناً مكان النبي صلى الله عليه وسلم وزجره لا يلام؛ لكون الدعوة إلى الله عز وجل هنا أهم من تعليمه ما ليس فرضاً عليه كالصلاة، ويجوز تأخير البيان عن وقت المخاطبة.
إذاً: ليس فرضاً عليه الآن أن يعلم هذا، إنما الفرض عليه أن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى عسى أن يدخل هؤلاء المشركون في دين الله.
ولكن أيضاً يؤدب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، فينزل القرآن ويقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]، فيعاتب في ذلك، وغاية ما فعله مع رجل أعمى أن قطب جبينه صلى الله عليه وسلم، وظهر عليه ملامح الغضب فقط، فيجيء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيقول: (مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي).
فعلينا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا شتم أحدنا تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع شيئاً غير تقطيب وجهه وعوتب في ذلك، فيعفو عن هذا الإنسان لعل الله عز وجل يعفو عنا يوم القيامة.
وهذا حديث آخر رواه الإمام أحمد في مسنده، وأصله في البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وسنسوق لفظ الإمام أحمد؛ لأن فيه فائدة زائدة عن غيره، وهو حديث إسناده صحيح قال: (قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث) وهذه الغرة ذكرت في رواية مسلم يقول جابر: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها وتفرق الناس)، فالغرة أنهم تركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده تحت شجرة وعلق سيفه في الشجرة.
قال: (فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم تحت الشجرة حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ سيف النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: من يمنعك مني؟)، كأنه يقول: لقيتك أخيراً، وأنت نائم على الأرض، وسيفك في يدي، فمن يجيرك مني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله يمنعني منك، فسقط السيف من يد الرجل، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟)، وهنا كان لسان الحال: فالله منعني، وعرفت أنني على الحق، وأنت كافر، فليس بيننا وبينك أمان، (وإذا بالرجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كن خير آخذ).
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتشهد أن لا إله الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك) ومعنى قوله: إني لن أقاتلك مرة أخرى ولن أكون مع قوم يقاتلونك، أما الإسلام فلن أدخل فيه.
(فخلى سبيله، ونادى النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الناس إليه فقال: إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلتاً في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قلت: الله، قال: فشام السيف فهاهو ذا جالس)، ومعنى (شام السيف) أدخله في غمده، واختصر القصة كلها.
ولو أن أحداً مكانه لقال: فعل كذا وفعلت كذا، ويطيل في وصف القصة.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال لهم: إني صرخت فيه، فقلت: الله، فسقط منه السيف، لعل الصحابة يقتلونه.
قال: (فذهب الرجل إلى أصحابه، وقال لهم: قد جئتكم من عند خير الناس).
فهذا الرجل الكافر رجع إلى أصحابه، وقال: جئت من عند خير الناس، قال: (فلما كان الظهر أو العصر صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف).
أيضاً مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس) فإذا أردت أن يحبك الله سبحانه وتعالى فانفع نفسك وانفع غيرك.
فالإنسان حين يعمل ويكسب من عمله وينفع الناس يكون نافعاً لنفسه وللناس، فيحبه الله عز وجل.
قال: (وأحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعه)، فمن الأعمال التي يحبها الله سبحانه وتعالى أن تدخل السرور على قلب إنسان مؤمن آذاك في شيء، وتوقع منك العقوبة فهو خائف من هذه العقوبة، فإذا بك تفرج عنه وتعفو فتدخل السرور على قلبه بذلك، فيكون لك الأجر عند الله سبحانه ويحبك الله سبحانه وتعالى.
(أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً)، عليه دين والدين كربة من الكربات ففرج عنه بقضائه، (أو تطرد عنه جوعاً)، كأن يكون صائماً وجاء وقت الإفطار وليس عنده شيء يأكله، فأعطيته وأطعمته.
قال: (ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً) أي: يعتكف في المسجد النبوي، وفي الاعتكاف أجر عظيم جداً.
فأعظم من هذا الأجر أن يمشي مع صاحب حاجة حتى يقضي له حاجته.
قال: (ومن كف غضبه ستر الله عورته)، وهذا الشاهد، فإذا كنت تريد الله تعالى يسترك في الدنيا وفي الآخر فاكظم غيظك ما استطعت، وحدث نفسك بأن الله عز وجل أقدر عليك من قدرتك على هذا، وحدث نفسك بالحور العين، واذكر قول الله عز وجل {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، وإذا كنت قائماً فاجلس، وإذا كنت جالساً فاضطجع، ولا تتكلم في وقت الغضب لعلك تنطق بالشيء الذي يثير الشر أكثر وأكثر.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نعالج الغضب، قال: (لا تغضب)، أي: لا تتعاط أسباب الغضب، فإذا وقعت في الغضب وثرت جداً قال: (إذا كنت قائماً فاجلس، وإذا كنت جالساً فاضطجع).
وقال: (توضأ وصل ركعتين)، وذلك لأن الغضب من نار، والماء يطفئ النار، فتطفئ نار غضبك بهذا الوضوء.
وقال: (من كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه) فهناك إنسان قوي يستطيع أن ينتصر وإنسان ضعيف لا يقدر أن ينتصر، وكل منهما إذا كظم غيظه فهو مأجور، ولكن الأعظم أجراً هو القادر على أن يفعل بخصمه ما يستطيع ثم يكظم غيظه وغضبه ويسكت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة)، ففي يوم القيامة يوم اليأس، والناس في ذلك الموقف العظيم، يقولون لله: (يا رب! اصرفنا ولو إلى النار)، يقولون ذلك من شدة ما يعانونه من وقوف على أقدامهم خمسين ألف سنة، والشمس قد دنت من الرءوس، فإذا بالله يملأ قلب هذا الإنسان رجاءً، فهو راجٍ ربه سبحانه، ومؤمل ما عند الله، والذي في قلبه الرجاء يعطيه الله ما يرجوه منه سبحانه وتعالى.
قال: (ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)، فالذي يمشي مع أخيه في حاجة، كأن يقول: تعال كلم لي فلاناً، فأنا أخاف غضبه، فيذهب معه ويمنع غضب هذا الآخر عنه، فهذا يثبت الله قدمه على الصراط يوم تزل الأقدام على الصراط فلا يسقط في نار جهنم.
قال: (وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل)، فقد يعمل الإنسان خيراً كثيراً جداً، ولكنه بسوء خلقه يضيع أجره، كان يعطي الفقراء ثم يمن عليهم، أو يشتمهم، ومثل ذلك: كإنسان عنده عسل فيخلطه بالخل فيفسده، وكذلك سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
ذكر أن الأحنف بن قيس رضي الله عنه كان من أحلم الناس، وكان الناس يتعجبون من حلم هذا الرجل، فيقولون له: ممن تعلمت الحلم؟ قال: تعلمته من قيس بن عاصم المنقري التميمي -وهو الذي سن الوأد ثم تاب إلى الله عز وجل وبعد ذلك كان من أحلم العرب- قال: شهدته وقد جلس في قومه وهو محتب.
قال: فجاءوا إليه برجل موثق في الحبال فقالوا: هذا ابن أخيك قتل ابنك.
قال: فوالله ما حل حبوته، ثم قال لابن أخيه: يا بن أخي! قطعت رحمك، وأفسدت ما بيننا وبينك.
ثم قال: أطلقوه.
وقال: قوموا إلى أم المقتول فأعطوها مائة ناقة فإنها غريبة.
من يفعل هذا الأمر؟! ليس المطلوب أن تكون مثله، لكن المطلوب ممن يغضب لأتفه الأسباب أن يتذكر هذا الرجل.
وقصة أخرى للأحنف أنه كان واضعاً ابنه على رجليه، وجاءت الجارية وفي يدها سفود فيه شواء، فإذا بالسيخ يسقط من يدها على الغلام فيقتله، ففزعت