وفي قوله تعالى: ((وَلَكِنْ يُنَزِّلُ))، قراءتان: قراءة الجمهور (ولكن ينزِّل)، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب: ((وَلَكِنْ يُنَزِلُ)).
قال تعالى: ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا))، أي: طمع بعضهم في بعض، أفراداً وجماعات ودولاً، ويبغي بعضهم على بعض، ولكن الله يقدر ما يشاء وينزل بقدر ما يشاء سبحانه وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها)، وكان ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا حديث في الصحيحين.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، أي: أما وأنتم فقراء فلست خائفاً عليكم، إنما أخاف عليكم عندما تصبحون أغنياء (فقال رجل: يا رسول الله! أويأتي الخير بالشر؟)، يعني: الخير الذي هو فتح الدنيا، وما يرزقنا ربنا وينزل علينا من بركات من السماء ويفتح لنا الأرض، هل هذا الخير سيأتي بعده شر؟ (فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل للرجل: ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ قال: فرأينا أنه ينزل عليه)، أي: جاء الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عنه الرحضاء؛ لأنه لما كان ينزل عليه جبريل بالوحي من السماء كان يكون عليه ثقيلاً، كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، ويكون في اليوم المطير يتصبب عرقاً كأنه في يوم شديد الحر صلوات الله وسلامه عليه.
(ثم مسح عنه الرحضاء، فقال: أين السائل؟ وكأنه حمده على أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر)، أي: فالعادة أن الخير تبعه الخير، لا الشر، فالمال نعمة من نعم الله تعالى لكن إذا كان في نفس الإنسان الطمع فهنا يأتي إليه الشر.
ويضرب لنا هذا المثل صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم)، وفي رواية: (إنه كل ما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر)، والمعنى أنه عندما ينزل المطر يكون في الأرض جداول الماء، فينبت نبات كثير، وتأتي البهائم والمواشي والأغنام فتأكل كثيراً إلى أن يقوم الراعي بالانصراف بها، ولعل بعضها يأكل حتى يقتل حبطاً، والحبط: الانتفاخ، فإذا انتفخت ولم تخرج فضلاتها ماتت إلا أن يدركها صاحبها.
وكذلك الإنسان في الدنيا يأكل المال، ولا يخرج زكاة ولا يعطي الفقراء ولا المساكين ولا يصل الرحم، إنما يجمع ويجمع ثم يحرس هذا المال، ويأكل إلى أن ينتفخ، فتجده غنياً عنده ملايين كثيرة ثم يصاب بالأمراض الكثيرة، يريد أكل اللحم كل يوم فيؤدبه الله بمرض النقرس المسمى داء الملوك، فيمنعه الطبيب من أكله، عندها يريد أن يأكل كل شيء، وفي آخر حياته يندم.
سمعت أحد الممثلين وكان مليونيراً يقول: إنه يتمنى أن يأكل مثلما يأكل الناس فلا يقدر، بل يقدم ما يشتهيه من الطعام للناس يأكلونه أمامه وهو محروم.
يقول: ليت الملايين التي عندي تذهب وترجع لي صحتي، ولو أعرف أن شيئاً يرجع لي ذلك لأنفقت فيه كل مالي.
ونحن نقول: أما كان ذلك من أول شيء أن تعتدل في حياتك، وتطيع الله سبحانه وتعالى، ولا تعصي ربك سبحانه وتعالى، لأن الله يؤدب العباد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت)، يعني: أن البقرة أكلت شبعها ثم استقبلت الشمس وعرقت وثلطت وبالت وانتفعت بهذا الذي أكلته.
ثم يعقب على هذه الصورة وعلى هذا المثل فيقول صلى الله عليه وسلم: (وإن هذا المال خضرة حلوة) أي: إن هذا المال هو كالنبات الذي للبهائم، فهو طعام وزرق إن استخدمه الإنسان استخداماً صحيحاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ونعم صاحب المسلم لمن أخذه بحقه، فجعله في سبيل الله واليتامى والمساكين، ومن لم يأخذه بحقه فهو كالآكل الذي لا يشبع، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) أي: يكون شهيداً يوم القيامة على الذي يأخذه من غير حق، كأن يسرقه أو يحسد غيره ويتمنى زوال النعمة لتصير له، فيسعى في ذلك، ويبغي بغياً وظلماً وطغياناً وعدواناً.
فيأخذ هذا المال من غير حقه، وينفقه في غير حله، فيكون كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة.
فإذا ضيق الله عز وجل على إنسان فليحمد الله سبحانه، وليطلب من الله، وليرض بما قسم الله له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)، فإذا رضيت وقنعت فترضى عن الله سبحانه وتكون أغنى الناس بهذه القناعة، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقنعوا، وأن يرضوا بما أعطاهم الله سبحانه.