الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27].
يخبرنا الله عز وجل بفضله وبرحمته وبعلمه وبقدرته أنه يحكم في خلقه بما يشاء، ويقدر لهم أرزاقهم بالنحو الذي تجري به حكمته وعلمه، فلو أنه بسط للعباد جميعهم ووسع عليهم لبغوا في الأرض، ولو أنه ضيق على الجميع لقنطوا من رحمة الله تعالى، ولكن يبسط الرزق فيفتح لمن يشاء ويقدر ويقبض ويضيق على من يشاء، وكل ذلك بعلمه وبقدرته وبحكمته سبحانه وتعالى.
فالله يخبرنا أنه لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض، والبغي هو الطغيان، وهو أشد الظلم.
والبغي أن الإنسان يطلب ما عند غيره لنفسه قهراً وظلماً وعدواناً، فلو أن الله عز وجل بسط الرزق لعباده جميعهم لكانوا كلهم أغنياء وما احتاج أحد إلى أحد.
وإذا لم يستشعر الإنسان حاجته إلى جاره كانت العداوة والبغضاء، وكان كل منهما يريد أن يأخذ ما عند الآخر.
لكن الله عز وجل يحوج العباد بعضهم إلى بعض؛ ليتعطافوا فيما بينهم، ولتكون بينهم المودة والرحمة، والحاجة والانتفاع.
فلله سبحانه حكمة في أن ضيق على فلان، ووسع على فلان؛ ولذلك الذي يعطيه الله شيئاً فليرض بما قسمه الله، سواء كان هذا الشيء قليلاً، أو كان كثيراً.
فالله لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن ينزل سبحانه وتعالى بقدر ما يشاء، فالرزق نازل من السماء، وخزائن الله عز وجل ملأى يعطي لعباده بقدر، فيعطي هذا ويضيق على هذا لحكمة منه ولقضاء وقدر حكيم من الرب جل وعلا، فأنت تدعو ربك: يا رب، يا رب! فيصعد الدعاء وينزل الرزق من السماء.
فالله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يسأله، فلعله ضيق عليك لتقول: يا رب، يا رب! وترفع يديك إلى الله عز وجل، فيصعد صوتك إلى السماء، فيجيبك الله عز وجل، ويجازيك وينزل عليك الرزق سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يستجاب له وقت البلاء فليكثر من الدعاء في الرخاء).
فصوتك مسموع في السماء في وقت الرخاء تدعو ربك، وتشكره، وتثني عليه سبحانه؛ فعندما يضيق بك الأمر تجد ما عند الله عز وجل من فرج قريباً جداً من حيث لا تحتسب، قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فالمؤمن يتقي الله سبحانه، ويتقي أن يغير الله عليه، ويتقي معاصي الله، فإذا ضيق الله عز وجل عليه فهو راض في نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقنع بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)، فبقناعتك بما أعطاك الله سبحانه تكن غنياً، ويجعل الله عز وجل في قلبك الإيمان والحب له سبحانه.
والقناعة أفضل من المال، وكم من إنسان يؤتيه الله عز وجل المال وإذا به يطمع في غير الذي أعطاه الله سبحانه، وإذا به مع كثرة ما أعطاه الله سبحانه يبغي في الأرض، قال تعالى: ((وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ)) أي: لظلم بعضهم بعضاً، ونعرف ذلك من قوله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فالإنسان وقتما هو فقير محتاج يقول: يا رب يا رب! ويظهر التعاون مع الناس والحب لهم والرحمة، وعندما يغنيه الله سبحانه إذا به يبطر نعمة الله، ويكون مع ربه كالعبد اللئيم مع سيده، فيعصي ربه سبحانه، ولا يطيع أمره ولا يعمل بما قاله الله سبحانه، وطغيانه عندما يرى نفسه استغنى، ويشعر أنه غني، ويترك الدعاء ويطغى على خلق الله، ويبغي في الأرض فساداً، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206].
وانظر في المقابل إلى هذا الإنسان الذي ذكره الله فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]، فعلينا أن نكون كهذا الثاني الذي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فالله اشترى منك نفسك واشترى منك مالك وأعطاك عوض ذلك الجنة، فقبل منك البيع وأعطاك العوض ورد عليك الثمن أيضاً.
فانظر إلى فضل ربنا الكريم، طلبت منه الجنة ودفعت نفسك ودفعت مالك فقبلك، وأعطاك الجنة، وأعطاك نفسك، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فهم أحياء عند ربهم، قدموا أنفسهم لأجل الجنة، ودفعوا الثمن أموالهم، فإذا بالله يعطيهم الجنة التي أرادوها ويرد عليهم أرواحهم ليكونوا أحياء وغيرهم أموات في البرزخ.
أما الذي يبيع نفسه للشيطان، ولا يقدم لله عز وجل شيئاً إلا الكلام كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204]، وكما قال الشاعر: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب فقد كان المنافقون إذا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلموا كلاماً جميلاً عن الإسلام، فإذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا بهم يكفرون بالله، ويجدون جمالاً فأخذوها وسرقوها، ووجدوا قبيلة بينهم وبينهم نزاع فأحرقوا أموالهم، فأنزل الله عز وجل يفضحهم بهذه الآية.
وقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى} [البقرة:205] تولى: لها معنيان: تولى بمعنى أدبر، أي: رجع عما قال وأفسد في الأرض.
أو تولى بمعنى: أصابته ولاية، فصار والياً وحاكماً، وله مركز عند الناس، فنسي ما كان يقول، كان يتكلم عن صلة الرحم فنسي ذلك.
وإذا قيل لأمثال هؤلاء: اتقوا الله، تأخذهم العزة بالإثم، ويقول لك: أنت تعلمني! ويغضب وينفر منك.
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل لأحدهم: اتق الله، يقول: سمعنا وأطعنا، يخشع لله تبارك وتعالى، لكن بعض الناس إذا قيل له: اتق الله، يقول: أنت تراني مجنوناً حتى تقول لي: اتق الله! وقد تقول لإنسان: هداك الله، فيقول لك: تراني ضالاً حتى تقول لي: هداك الله! يريد أن ينفذ ما يمليه عليه هواه.
وهذا الإنسان الذي يسير وراء هواه، آخر أمره أنه باغ في الأرض، وأنه بغيض إلى الله عز وجل، والله لا يحب المفسدين.
فمثل هؤلاء يقول الله سبحانه فيهم: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] أي: لصاروا بغاة ظالمين، يظلم بعضهم بعضاً.
وقد جاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أنه أخبر عن طمع ابن آدم فقال: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى له ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)، فلو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى له ثانياً، ولو كان له واديان لتمنى ثالثاً ولا يقنع.
وعندما يتفكر الإنسان في ذلك لو كان الوادي مليئاً بالذهب ماذا سيعمل به؟ ومتى سينفقه؟! لكن طمع الإنسان يجعله يتمنى أن يعيش كثيراً طالما أنه يوجد مال كثير وينسى ربه سبحانه وتعالى، لكن التراب الذي خلق منه هو الذي سيملأ جوفه لا الذهب ولا الفضة، ومن تاب من الشره والطمع ومن المعاصي والبغي والإفساد في الأرض، ومن الحسد للخلق؛ فإن الله يتوب عليه.