قال الله تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى:24] ستجد هذه الكلمة مكتوبة في المصاحف كلها: {وَيَمْحُ} [الشورى:24] ياء، ميم، حاء، لا يوجد بعدها واو، وإن كان إعرابها أنها استئنافية مبتدأ بها، فهي جملة جديدة، فهو فعل مضارع مرفوع وليس مجزوماً، فليست معطوفة على ما قبلها، وهذا من جمال كتاب الله سبحانه ومن توفيق الله سبحانه للذين كتبوا المصحف فقد كتب المصحف بطريقة في غاية العجب، ولو أن الإنسان تفكر كيف كتب هذا المصحف لشعر أن من ضمن إعجاز القرآن كتابة القرآن.
والقرآن العظيم كتب من غير نقط، والذين كتبوه هم الذين تلقوا القرآن من النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكتبوا القرآن على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن بكل قراءاته، فكتبوا الكتاب الذي يحتمل جميع القراءات التي فيها، بل وتحتمل اللهجة أيضاً في الكلام، فتجدهم كتبوا الكلمة التي ترجع لأصل فيها، مثل كلمة (الصلاة) فقد وضعوا بعد اللام واواً؛ لأن ألفها أصلها واو، ولذلك ردها للأصل، والزكاة أصلها واو وأعادها إلى أصلها، فعندما يعيدها إلى أصلها وتقرأ قراءة من القراءات لأهل الإمالة مثل: حمزة والكسائي وخلف، فإنك تعرف أن ألف الزكاة واوية، وليست يائية، ومستحيل أن يكون فيها إمالة، إلا أن يخطئ الإنسان في قراءة أو في كلام، كقراءة البعض من الناس، وكلهجة بعض الناس يقول لك عن الساعة: السيعة مثلاً، فهذه لهجته.
وقد راعى القرآن لهجات العرب في ذلك، ومن كتب القرآن راعى أصول الكلمات حتى لا يخطئ من يقرأ على أي وجه من الوجوه، ويعرف أن هذه واوية لا تقرأ أبداً بإمالة، فلا نقول في الصلاة: الصلية مثلاً، ولا في الزكاة: الزكية، بخلاف الربا، وإن كتبت لاحتمال الأمرين، فتقرأ بالإمالة وتقرأ: (والربا)، كذلك هنا في هذه الكلمة لاحظ الكاتب أن {يَمْحُ اللَّهُ}، الواو بعدها ألف الوصل، فلو أنه كتب (يمحو الله) فستقرأ: (ويمحو الله) وهذا لا يصلح، فلالتقاء الساكنين لابد من حذف واحد من الاثنين والتعبير عنه بحركة من الحركات، لذلك كتبت {وَيَمْحُ اللَّهُ}، لأنك تنطقها هكذا: {وَيَمْحُ اللَّهُ}، ولكن لا تعرب أنها معطوفة على ما قبلها.
فقوله تعالى: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُ}، إن: أداة جزم، يشأ: فعل مضارع مجزوم وهو فعل الشرط،
و صلى الله عليه وسلم يختم، {وَيَمْحُ}، لو جعلناها معطوفة على {إِنْ يَشَإِ}، لكان المعنى: يمحو الله الباطل إن يشأ، وهذا لا يصلح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قضى بأنه يحق الحق ويبطل الباطل، فقد قضى أن هذا لا بد أن يكون، فلذلك (يمحو) ليست معطوفة ككلمة، وإنما العطف عطف جملة، فتصبح الواو عاطفة لما بعدها للجملة كلها على ما قبلها، وتصير (يمحو) كلمة في ابتداء، فيصبح فعلاً مضارعاً مرفوعاً.
ومثل هذه الكلمة قوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:18]، فليست لزوماً، بل أصلها (سندعو): فعل مضارع مرفوع، ولكن كتبوها عيناً مضمومة لالتقاء الساكنين، وهذا من حكم كتابة القرآن بهذه الطريقة العجيبة الجميلة، كذلك عندما تقرأ في المصحف الذي لم يكن منقوطاً فإن الله يذكر معنى في آية ما، وإذا قرأت نفس الآية بوجه آخر فإنك تجد لها معنى آخر، يريد الله عز وجل هذا المعنى ويريد هذا المعنى، ففي القراءة الأولى لا نضع نقطاً، وطالما أن هذه قراءة وهذه قراءة فلا نضع نقطاً، حتى إن الذي يقرأ بكذا يجوز له ذلك، والذي يقرأ بكذا يجوز له ذلك.
قال تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ}، أي: يزيل الباطل، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32]، ويقول تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] انظر لهذا التعبير، نور الله سبحانه نور عظيم، وكأنهم ظنوا أنها نار خافتة بسيطة سوف يطفئونها بالنفخ فيها، وقد حاولوا وفعلوا، وإذا بهؤلاء الذين يحاولون أن يطفئوا نور الله سبحانه يجعل الله عز وجل في قلوب بعضهم نوراً فيدعون إلى دين الله بعد ذلك، منهم: عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله تبارك وتعالى عنه، الذي أراد في يوم من الأيام أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك يقرأ القرآن فإذا به يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه الصحابة خافوا منه، فقد أتى وهو متقلد سيفه، وإذا بـ حمزة رضي الله عنه يقول: دعوه فإن أراد شيئاً قتلناه بسيفه، ويدخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم ويمسكه النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه ويقول: أما آن لك أن تؤمن؟ قال: لقد جئت لأسلم، فكان إسلام عمر رضي الله عنه فتحاً عظيماً، وما تجرأ المسلمون أن يمشوا في الطريق إلا بعد إسلام عمر رضي الله عنه.
ولم يكتم عمر إسلامه؛ بل خرج بين الناس وصرخ فيهم بلا إله إلا الله، وأعلن إسلامه، يقول عبد الله بن عمر وكان صغيراً: إذا بهم يفيضون إليه كالسبيل، أراد الكفار من كل وادٍ أن يهجموا على عمر ويضربوه رضي الله عنه، ومن العجب أن الذي أنقذ عمر هو الوليد بن المغيرة، فقد قال: أنا على ما هو عليه، فخافوا من الوليد بن المغيرة، ولم يكن على ما هو عليه، فإذا بهم يتركون عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يصرخ فيهم بلا إله إلا الله، ويخرج المسلمون مع عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه ويتوالى إيذاء الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بعد ذلك.
قوله تعالى: {ويُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}، أي: بما أنزل من هذا القرآن العظيم، يحق الحق بقضائه وقدره، ويحق الحق بكن فيكون، ويحق الحق سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين، والمؤمن يجاهد بلسانه وبيده وبقلبه وإيمانه ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فالإنسان يجاهد والذي يأتي بالنتيجة هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي ينصر الدين وينشره ويفتح له القلوب، وإنما المجاهد سبب من الأسباب فقط.
قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، أي: يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فهو العليم، وهو الشهيد، وهو الخبير، وهو اللطيف سبحانه وتعالى، وهذه كلها من أسماء الله الحسنى العظيمة التي فيها معانٍ متقاربة، وإن كان كل منها يختص بشيء فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فالله عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب، يعلم كل ما ظهر وما خفي، وما كان في السر وما كان في العلن سبحانه وتعالى.
ولكن يعطي معنى زائداً هنا أنه ما خفي علمه الله سبحانه وتعالى، ففي هذه الآية إشارة للعلم الخفي، والله شهيد أي: عليم سبحانه، ولكن العلم بالجلي أي: الشيء الظاهر المشاهد، فالله عز وجل عليم وخبير وشهيد، والله سبحانه لطيف عليم، فيعامل العباد بعلمه سبحانه وتعالى وبلطفه الخفي، فيرفق بهم لما يعلم في قلوبهم سبحانه وتعالى مما يستحقون، وقد فسرنا قبل ذلك هذه الكلمة العظيمة.
فقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى:24]، أي: عليم بما تحتويه صدور خلقه.
وقوله: {بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى:24]، أي: بما في القلوب.