الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: بسم الله الرحمن الرحيم.
{حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى:1 - 6].
هذه السورة الثانية والأربعون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الشورى، وهي واحدة من سبع سور بدأت بالفواتح المعروفة (حم) بهذين الحرفين، وهذه السورة زادت على باقي السبع بثلاثة حروف أخر وهي: (عسق)، وسور الحواميم أو آل حم من السور العظيمة التي نزلت في مكة، ونزلت كلها على التوالي بعضها وراء بعض.
وهذه السورة هي السورة التاسعة والستون في ترتيب نزول القرآن من السماء، لكنها في ترتيب المصحف هي السورة الثانية والأربعون.
وسور الحواميم كلها مكية، وفيها خصائص السور المكية، ففيها تربية المؤمنين، وفيها الدعوة إلى التوحيد، وفيها إقرار أمر العقيدة، وبيان توحيد الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبيان قدرة الله العظيمة الباهرة، وبيان الآيات الكونية التي جعلها الله عز وجل لأولي الأبصار يعتبرون بها، ويعلمون أن إلههم إله واحد لا شريك له، خلق السموات، وخلق الأرض، وخلق الجبال، وخلق البحار، قال الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وبيان نعم الله سبحانه وتعالى على العباد، وبيان المصائب التي يبتلي بها العباد، وأن العباد لا يبتليهم الله سبحانه وتعالى إلا بما كسبت أيديهم، قال تعالى: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] سبحانه وتعالى.
وفي هذه السورة الإشارة إلى تحدي الطاعنين في القرآن العظيم، فقد قال الكفار يوصي بعضهم بعضاً: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، فالله عز وجل تحداهم بأن يأتوا بكتاب مثله، وبأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وبأن يأتوا بسورة من مثله، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فقال الله سبحانه تبارك وتعالى يتحدى هؤلاء: {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ} [الشورى:1 - 3] أي: الغالب سبحانه، {الْحَكِيمُ} [الشورى:3] ذو الحكمة العظيمة البالغة.
فالقرآن من جنس هذه الحروف التي تقرءونها وتعرفونها، فائتوا بسورة مثل هذه السورة، أو كأقصر سورة من كتاب الله عز وجل إن استطعتم إلى ذلك سبيلاً.
والعرب قوم يقبلون التحدي، إذا تحداهم أحد سرعان ما ينبرون في قبول التحدي، وفي المخاصمة، ولكنهم هربوا ولم يقدروا أن يواجهوا، ولم يقدروا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولا بمثل أقصر سورة منه.
كذلك يستدل الله عز وجل في هذه السورة على المعاندين للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا الوحي لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وإنما أوحى الله إليه كما أوحى إلى الذين من قبله، وليس بدعاً من الرسل، وليس شيئاً جديداً غريباً على هؤلاء، فقد عرفوا أن قبلك أنبياء من البشر قد جاءوا إلى أقوامهم، فقال الله سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:3].
كذلك يذكر أنه خلق السموات والأرض، وأن هذه مخلوقات عرفت حق ربها سبحانه، فقال: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5]، أي: تكاد السموات ينفطرن من هول ما يقول هؤلاء الذين ادعوا لله الصاحبة والولد! {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} [إبراهيم:30].
{تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]، فهذا الكون كله لله سبحانه تبارك وتعالى، ما علمته وما لا لم تعلمه، كل شيء يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، فالله خلقك، وخلق لك هذه الآيات التي في الكون، وخلق ملائكة يستغفرون لك إذا آمنت بالله وعملت صالحاً، {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5].
والمشركون لا حجة لهم إلا أنهم يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وقد حذرهم الله عز وجل يوم القيامة، يوم الجزاء، يوم يرجعون فيه إلى الله سبحانه وتعالى فيجازيهم بما عملوا، تحذيراً لهم من شركهم، ومن وقوعهم فيما يغضب الله سبحانه وتعالى.
كذلك يسلي الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه هو سبحانه الذي يتولى جزاء هؤلاء المكذبين، إذاً لا تحزن على هؤلاء، ولا تحزن مما يصنعونه بك، وقد أمره أن يتلطف معهم صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، ومع ذلك لم يراعوا قرابة ولا رحماً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفوا له بالمرصاد، فالله عز وجل طمأنه أنهم راجعون إلى الله عز وجل فيجازيهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:8].
كذلك يذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على العباد، فمن آيات الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض، وما بث فيهما من دابة، ومن آيات الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان مع ما أنعم عليه من نعم، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى:32 - 34] فيغرق أهلها بما كسبوا، ومع ذلك فهو يعفو عن كثير سبحانه وتعالى.
وختم الله هذه السورة العظيمة بقوله سبحانه: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53]، إذاً لا تحزن على هؤلاء، فكل شيء راجع إلينا؛ لنجازي هؤلاء، ونحاسبهم على ما صنعوا.