الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة فصلت: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:6 - 8].
يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يقول للخلق: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت:6]، فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر من البشر، ومخلوق ممن خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، أبوه آدم كغيره من البشر، ولكن الله سبحانه تبارك وتعالى اختصه بهذه الرسالة العظيمة الخاتمة التي جعلها الله عز وجل أكمل الرسالات وأفضلها وأشرفها، وأكمل بها دينه سبحانه تبارك وتعالى.
فهذا النبي الكريم وظيفته وصفته أنه بشر يوحى إليه، فيدعو إلى ربه سبحانه ويأمر الخلق بطاعة الله سبحانه، وبعبادته وحده، وبتوحيده، ويبشرهم وينذرهم صلوات الله وسلامه عليه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام بشير ونذير، يبشر من أطاع وينذر من عصى، يبشر من آمن وينذر من كفر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عنه ربه سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، فهو كغيره من الرسل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، فليس شيئاً جديداً مخترعاً، ولكنه كمن تقدموا قبله من الرسل بشر من البشر يدعو إلى ربه عليه الصلاة والسلام.
قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت:6]، فالوحي من الله، يدعو الخلق إلى عبادة الله الإله الواحد سبحانه تبارك وتعالى.
قال عز وجل: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت:6]، أي: توجهوا إلى الله عز وجل بعبادتكم، وبدعائكم، وباستغاثتكم، توجهوا إلى ربكم سبحانه تبارك وتعالى بقلوبكم وأبدانكم ووجوهكم مستقيمين على دينه ولا تنحرفوا عنه، واستغفروا ربكم سبحانه.
قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6] عقاب شديد لمن أشرك بالله، وجعل لله نداً ونظيراً، وهؤلاء المشركون من صفاتهم أنهم لا يؤتون الزكاة: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7]، فهم أشركوا بالله سبحانه، وزادوا على ذلك أنهم لا يؤتون الزكاة، والزكاة إما تزكية القلوب، بمعنى: التطهر بالإيمان، أو أنهم لا ينفقون في سبيل الله سبحانه، بل يبخلون، وإنفاقهم محض الرياء، وإخراجهم المال طلباً للسمعة، أما لله سبحانه تبارك وتعالى فلا، فويل لهؤلاء المشركين الذين طلبوا الدنيا للدنيا، فلم ينفقوا لله سبحانه، ولم يؤتوا زكاة يطهرون بهم أبدانهم وأموالهم وأنفسهم، ولم ينفقوا، بل منع بعضهم بعضاً أن ينفقوا على الفقراء والضعفاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتواصوا فيما بينهم بذلك.
هذا فعل المشركين وكذلك فعل المنافقين، والمشركون في مكة دعا بعضهم بعضاً ألا ينفقوا على أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه مهما كان بهم الفقر، بل اجتمعوا على أن يمنعوا عنهم الطعام الذي يأتيهم من خارج مكة، فحبسوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، حبس النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه وكفار قريش يحيطون بهم، ويمنعون عنهم الطعام الذي يأتيهم من الخارج! هذا فعل المشركين معهم.
وكهذا الفعل فعل المنافقون في المدينة، فالمنافقون قال بعضهم لبعض: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]، لكونهم يعلمون تأثير المال على الإنسان، فقالوا: امنعوهم من أجل أن يموتوا من الجوع، امنعوه من أجل أن يمد يده ويشحت، امنعوه من أجل أن يرجع إلينا، أما المؤمنون فامتلأت قلوبهم بالإيمان، فلم يأبهوا لذلك، وصبروا على أمر الله سبحانه، حتى فرج الله سبحانه تبارك وتعالى عنهم، وأما المنافقون فلا يصبرون على ذلك، والكفار لا يصبرون على ذلك، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش بأن يعاقبهم الله سبحانه تبارك وتعالى، ويؤدبهم بسنين كسني يوسف، فحبس الله عز وجل عنهم المطر، ومنع عنهم غذاءهم، فهرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستغيثين به، يناشدونه الله والرحم، أن بيننا وبينك رحماً، فاتق الله فينا، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل لهم ربه أن يرزقهم طعاماً وينزل عليهم ماءً، ويرفع عنهم الجدب والقحط الذي هم فيه.
فالمؤمن يصبر لأمر الله ولا يلجأ إلا إلى الله سبحانه، والكافر تغره الدنيا، والكافر مستعد أن يعمل أي شيء في كفره، فيتوجه إلى الله أو إلى غير الله، ولا فرق عند الكافر في أن يتوجه إلى أحد، حتى يأخذ قوته ويأخذ طعامه، وينكشف عنه الضر.
فلذلك المشركون كانوا إذا مسهم الضر في البحر يدعون الله سبحانه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا عن الله.
ففي وقت رخائهم ووقت استراحتهم لا يعبدون الله سبحانه وتعالى، وحين يأتي عليهم البلاء من السماء يرجعون لله عز وجل ويقولون: يا رب! يا رب! إلى أن ينكشف، ويرجعون مرة أخرى إلى عبادة أوثانهم! فقد ساووا بين الله وبين غيره، يخادعون البشر ويخادعون رب البشر سبحانه تبارك وتعالى؛ فإن هؤلاء الكفار يدعون الله ويدعون غير الله، والمنافقون كذلك، يخادعون الله وهو خادعهم، ولذلك كان من أسلم من هؤلاء يثبته النبي صلى الله عليه وسلم على الدين بشيء من المال، فكان يعطي المؤلفة قلوبهم، وجعل الله عز وجل لهم سهماً من الزكاة، حتى يثبتوا على الدين، فلا يغروا غيرهم، ولا يفتنوا غيرهم، فجعل لهؤلاء حظاً وشيئاً، فيثبتهم الله عز وجل على دينه بهذا الذي يأخذونه، إلى أن يستقر الإيمان في قلوبهم بعد ذلك.
فالمال يحبه الإنسان، وكلما ابتعد الإنسان عن ربه ازداد حبه للمال، وثقته في المال، فيرى أن المال يفتح له أي باب مغلق، وأن المال يعمل له الذي لا يمكن عمله، لذلك يكنز، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن هذا المال وعن ابن آدم أنه يهرم ويشب منه اثنان: حبه للمال، وحبه الحياة في الدنيا، وأنه يعيش ويكبر في الدنيا، ومهما شاب الإنسان ازداد حباً للدنيا، وازداد حباً للبقاء فيها، وازداد حباً للمال، وكأن قلبه شباب دائم في حب الدنيا وفي حب المال، ولا يهرم قلبه عن حب الدنيا ولا عن حب المال، إلا من رحم الله سبحانه تبارك وتعالى.