قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [غافر:82] يأمر الله عز وجل عباده أن يتفكروا ويمشوا في الأرض، ويسيروا فيها، قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] وتفكروا في نعم الله وفي آياته سبحانه.
قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: كيف كانت نهاية السابقين، وهؤلاء كانت آخرتهم ماذا؟ كيف كانت العاقبة والنهاية لهؤلاء المكذبين؟ قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً) أي: كانوا أكثر من هؤلاء القرشيين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، فمن السابقين قوم عاد، وقوم نوح، وقوم صالح، فأين ذهب هؤلاء الذين كانوا كثرة كاثرة؟ أين ذهب فرعون وجنوده وقومه؟ قال سبحانه: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) أي: كانوا عدداً ضخماً جداً، قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ) [غافر:82]، أي: كانت قوتهم أشد، وانظر إلى عاد {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8] فقد كانوا طوال الأجساد عراضها، أقوياء في بنيانهم، قال تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9] أي: نحتوا الصخر فصنعوا منه بيوتاً، وكانت بيوتهم داخل الجبال منحوتة، فضاعت هذه البيوت وتهدمت، وأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وترك الله المساكن آية وعبرة حتى يقال: هنا كان قوم ثمود الذين صنعوا هذه البيوت من الجبال، فذهب قوم ثمود، وبقيت البيوت لتدل على أن الله أفنى هؤلاء وأذهبهم، ولتدل على قوته سبحانه وتعالى وفعله بمن عصى.
قال تعالى: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ) أي: جعلوا الآثار في الأرض وهم يتكبرون على الخلق، قال الله سبحانه في قوم عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 131].
فقوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) أي: في كل مكان من أماكن بلدانكم وعلى كل طريق تبنون قصراً شاهقاً عظيماً لا تحتاجون إليه، ولكن ليرى الناس قوتكم وقدرتكم على ذلك، زخارف وزينة، وإظهار القوة والاستكبار، تبدون شيئاً عظيماً، نصباً عالياً؛ ليرى الناس أنكم على قدرة عظيمة.
وقوله تعالى: (تَعْبَثُونَ) أي: عبثاً ولعباً ولهواً، ليس لاحتياجهم لهذه القصور، ولا لهذه الأعمدة العالية، ولكن عبثاً، فقوله: (تَعْبَثُونَ) أي: تلعبون.
قال تعالى: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي: قصوراً عظيمة، أو منابع للمياه عظيمة تجمعون فيها المياه، حتى تروا الناس قدرتكم على ذلك، فتقولون: نحن الذين عندنا الماء، ونحن الذين نفعل هذا الشيء، فمن الذي أعطاكم هذه القدرة سوى الله سبحانه الذي أوجب عليكم أن تعبدوه، فقوم عاد تركوا عبادته، وعبدوا غيره، وأشركوا بالله سبحانه، ورفضوا كلام رسله، فعاقبهم الله سبحانه.
قال تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) إنها دعوة للتفكر في آثار السابقين، فهؤلاء تركوا هذه الآثار التي صنعوها بطراً وأشراً، وارتفاعاً وكبراً، فأذاقهم الله عز وجل العذاب في الدنيا فضلاً عما يذوقونه في الآخرة، قال تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (ما) إما نافية بمعنى: الجحد، أي: لم يغن عنهم ما كانوا يكسبون، أو بمعنى: الاستفهام فيها، (فما أغنى عنهم) أي: فأي شيء أغنى عنهم هذا الذي كانوا يكسبونه؟ بمعنى: ماذا أغنى عنهم هذا الذي صنعوه؟ فما كانوا يكسبون من أموال، ومن عتاد، ومن قصور، ومن أعمال، ومن أولاد، ومن أتباع، أين ذهبت هذه الأشياء؟ هل انتفعوا بها؟ فأي شيءٍ أغنت عنهم هذه التي كسبوها؟
و صلى الله عليه وسلم ما أغنى عنهم، أي: لم يغن عنهم ذلك شيئاً، بل لما جاءهم الهلاك أهلكهم الله وعذبهم سبحانه، وذهبوا ولم يرجعوا.