قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُ} [غافر:67] فأنتم تسلمون أنفسكم لله، وتستسلمون له؛ لأنه مستحق لذلك، فأنتم كنتم لا شيء، وهو الذي خلقكم من تراب، والتراب لم يكن شيئاً فأوجده الله سبحانه، وخلقكم من نطفة من ماء مهين، كل هذا خلق الله سبحانه وتعالى، فأصل الإنسان كان عدماً، وأوجد الله عز وجل الماء، وأوجد التراب سبحانه وتعالى، وخلط الماء بالتراب فأوجد الطين، ثم ترك الطين فترة فصار صلصالاً، كما قال تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26] أي: من هذا الطين الذي يكاد أن ينتن، تقول: أسن الماء بمعنى: أنتن الماء، فخلق الإنسان كان من طين تركه الله عز وجل فصار صلصالاً متغيراً، تغير ثم يبس فكان كالفخار، ثم شكله الله عز وجل كما يشاء فكان آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم نفخ فيه من روحه، أي: مما خلق من الأرواح، فبثها فيه سبحانه وتعالى فكان هذا الخلق، ثم جعل الإنسان بعد ذلك يتناسل كما سمعنا في هذه الآية العجيبة، ومثلها ذكر الله عز وجل في سورة الحج، ومثلها ذكر في سورة المؤمنون، فتكرر وصف خلق الإنسان الذي أعجز الخلق جميعهم، فالله سبحانه وتعالى خلق {الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، وخلق {الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، وهنا يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر:67] فبدء خلق آدم كان من تراب.
قال تعالى: (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وكان التناسل بعد ذلك من هذه النطفة، وعناصر جسد الإنسان هي عناصر موجودة في التراب، وقد اكتشف العلماء منها حوالي اثنين وعشرين عنصراً من العناصر كلها موجودة في تراب الأرض، ومن الممكن أن يكتشفوا بعد ذلك عناصر أخرى، قالوا: تراب الأرض فيه مائة عنصر، وقد اكتشفوا في الإنسان من هذه العناصر اثنين وعشرين عنصراً، ولذلك إذا مات الإنسان تحول إلى هذا التراب واختلط به؛ لأنه جاء منه أصلاً، فقد جعل الله عز وجل الإنسان من تراب، وجعل ماءه يجري على هذا التراب، وجعل رزقه يخرج من هذا التراب، فأنت من هذه الأرض وإليها ترجع مرة ثانية.
وكلمة (نطفة) المقصود بها: المني، ومعنى النطفة لغةً: الماء اليسير الذي ينطف في الإناء، فخلق الإنسان من هذه النطفة، وهذه النطفة عجيبة جداً، إذ هي ماء يحتوي على ملايين الحيوانات المنوية، والإنسان يخلق من حيوان واحد منها فقط، وحجمه صغير ضئيل جداً جداً، لم يكتشف العلماء هذا الحيوان الموجود في هذه النطفة إلا منذ سبعين سنة مضت، وكانوا قبل ذلك يظنون أن الإنسان كله يخلق في بطن أمه إنساناً صغيراً مثل النملة ويكبر على هذا الشيء، واعتقد به علماء الطب حتى القرن السابع عشر للميلاد، حتى اخترع الميكروسكوب في هذا الزمان، وكان لا يزال هذا الاعتقاد سائداً إلى قبل سبعين سنة، ثم اكتشفوا أن الإنسان يتكون في بطن أمه أطواراً، وقد ذكر الله عز وجل ذلك لنا منذ ألف وأربعمائة سنة.
يذكر الشيخ عبد المجيد الزنداني الذي أكرمه الله بهذه الآية وأمثالها في القرآن قصة له مع رجل أمريكي في هيئة الإعجاز العلمي، وهو عالم من علماء الطب اسمه البروفسور مرشال جونسون، قال الشيخ عبد المجيد للبروفسور مرشال: قد ذكر في القرآن أن الإنسان خلق أطواراً، طوراً فطوراً، قال: فلما سمع هذا الكلام كان قاعداً فوقف مندهشاً! قال: قلنا له: كان ذلك في القرن السابع الميلادي، فالقرآن يذكر لنا أن الإنسان كان أطواراً، فقال البروفسور: هذا غير ممكن، وتعجب لهذا الأمر، فقال له الشيخ عبد المجيد: لماذا تحكم عليه بهذا؟ هذا القرآن يقول: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6]، وقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14]، قال: فقعد البروفسور مرشال جونسون على الكرسي وهو يقول بعد أن تأمل الأمر: ليس هناك إلا ثلاثة احتمالات: الأول: أن يكون عند محمد صلى الله عليه وسلم ميكروسكوبات ضخمة جداً يعرف بها ذلك، وهذا مستحيل جداً.
والاحتمال الثاني: أن يكون هذا الشيء من قبيل الصدفة.
والاحتمال الثالث: أن يكون رسولاً من عند الله سبحانه وتعالى.
فقال له الشيخ عبد المجيد: أما قولك: عنده ميكروسكوبات ضخمة، فأين هذا وأنتم لم تصنعوها إلا في القرن السابع عشر؟ قال: هذا صحيح.
قال: أما الأمر الثاني: وهو قولك إن هذا صدفة، فهل احتمالات الصدفة الواردة عندكم في الإحصاء تعطي هذا الأمر ومن الممكن أن يكون؟ وإذا جاء مرة في القرآن فهل تتكرر الصدفة مرة أخرى؟ فقال الرجل: هذا صحيح، صعب أن نقول: صدفة، فقال الشيخ عبد المجيد: قلنا: ما رأيك؟ هل هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من السماء؟ فقال الرجل بعدما سكت: لا تفسير إلا بوحي من فوق، أي: نزل عليه من السماء صلوات الله وسلامه عليه.
هذا الأمر العجيب الذي ذكره القرآن يذكر فيه مراحل الخلق، وليس كل النطفة هي التي تلقح البويضة، وإنما حيوان واحد من ملايين الحيوانات الموجودة داخل هذا الماء القليل هو الذي يخترق البويضة ويلقحها، فهذا خلق الإنسان.