لقد كان أهل الجاهلية يقرون بالربوبية، ولذلك لما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام لم يدعهم لأن يقولوا: لا رب إلا الله؛ لأنهم يعرفون ذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، فهم ليسوا بحاجة لأن يقولوا: لا رب إلا الله، وإنما أرسل الله رسوله صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ليدعو خلق الله إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، إقراراً على النفس بأني لا أتوجه إلى سواه بالعبادة، فلا أعبد إلا هذا الإله الواحد سبحانه وتعالى، وأن أعتقد أنه لا يوجد في الكون إله حق إلا هو سبحانه، فهذا هو معنى شهادة التوحيد: لا إله إلا الله، إذ معناها: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، فهناك معبودات أخرى غيره كثيرة، منها ما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم:81].
لكنها كلها باطلة، فكلمة التوحيد (لا إله)، فيها حرف (لا) وهي نافية للجنس، و (إله) اسمها، والأصل في هذه النافية للجنس أن يقدر الخبر كلمة: (حق)، ومن ذهب إلى أن التقدير كلمة (موجود) كقولهم: لا مصلي في المسجد، أي: لا مصلي موجود في المسجد، فهو خطأ؛ لأن كلمة التوحيد لا يقال فيها: لا إله موجود إلا الله؛ لوجود آلهة أخرى كثيرة تعبد، لكنها باطلة، فالتقدير الصحيح أن يقال: لا إله حق إلا الله، فالله هو الإله الحق وحده لا شريك له، وما سواه من أوثان وأصنام ومعبودات اتخذت من دون الله كلها آلهة باطلة عبدت من دون الله بغير حق، ولذلك نقول: أرسل الله الرسول عليه الصلاة السلام ومن قبله الرسل ليعبدوه وحده لا شريك له، وليوحدوه، وليقولوا للخلق: قولوا لا إله إلا الله، قال تعالى في شأن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
فيبين ربنا هنا أنه أرسل نوحاً إلى قومه ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].
فقوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73] إثبات ونفي، وهي مثل كملة التوحيد: نفي وإثبات، فقولنا: (لا إله) نفي لصفة الألوهية الحقة عن إي مخلوق، وقولنا: (إلا الله) إثبات لصفة الألوهية الحقة له وحده سبحانه وتعالى، فمعنى (لا إله إلا الله) هو نفسه الذي أرسل به الله سبحانه الرسل أن يقولوا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].
وهذه الكلمة -أي: كلمة التوحيد- يدخل العباد في دين الإسلام ويعبدون الله سبحانه عن طريق اتباع أمر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ لابد من كلمة التوحيد الثانية وهي: محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فهو رسول من عند الله يبين لنا كيف نعبد الله سبحانه وتعالى.