قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، تقدم أنه يوم القيامة، والأشهاد جمع شاهد، كما أن الأصحاب جمع صاحب، وهم الشهود الذين يشهدون على الناس يوم القيامة من ملائكة ورسل وأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكذلك ممن يشهد على الإنسان من نفسه جوارحه، فإنها تشهد عليه يوم القيامة، وفي ذلك اليوم ينصر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، وقد جاء في الأثر: من نصر مؤمناً في الدنيا كان حقاً على الله أن ينصره في الدنيا والآخرة، ومن رفع ظلماً عن مؤمن في الدنيا كان حقاً على الله عز وجل أن يرفع عنه من الظلم ومن الكروب في الدنيا وفي الآخرة)، ويؤيده ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقاً على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم) إذ الجزاء من جنس العمل، فالإنسان المؤمن حين يسمع غيبة لأخيه المؤمن فيرد وينتصر لهذا الغائب؛ فإن عز وجل ينصره يوم القيامة، وهذا وعد من الله عز وجل قطعه على نفسه كما تقدم في الحديث، والحديث رواه الإمام الترمذي وحسنه، وصححه الشيخ الألباني، وهو من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وجاء في زيادة ليست عند الترمذي أنه تلا هذه الآية: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51] فجعل من نصر الله عز وجل للمؤمن في الحياة الدنيا أن يسخر له من يدافع عنه ويدفع عنه في غيبته، ويدفع عن حقه في الدنيا، ويوم القيامة ينتصر الله عز وجل للمؤمنين يوم يقوم الأشهاد.
وبمعنى حديث الترمذي ما روى الإمام أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكاً يحميه من النار، ومن ذكر مسلماً بشيء يشينه به وقفه الله عز وجل على جسر من جهنم حتى يخرج من مقاله)، والحديث حسنه الشيخ الألباني، وقوله: (من حمى مؤمناً) أي: من دافع عن إنسان مؤمن من إنسان يذكره بسوء، وقوله: (من منافق) وصف صاحب الغيبة بالنفاق، كما وصف الإنسان الذي يدافع عنه بأنه يحمي أخاه ويمنع عنه هذه الغيبة من مثل هذا المنافق.
قوله: (بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكاً يحميه من النار)، أي: يدفع عنه نار جهنم يوم القيامة في مروره على الصراط حتى ينجيه الله سبحانه وتعالى، قوله: (ومن ذكر مسلماً بشيء يشينه)، أي: من يتكلم عن مسلم بكلام يسوءه، كأن يريد أن يضره، وقوله (يشينه) بمعنى: أنه يقبحه ويذكر فيه فعالاً ويفضحه عند الناس، ومن فعل ذلك وهو كاذب فيما يقول وقفه الله عز وجل على جسر جهنم حتى يخرج من مقاله، وهذا من نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين؛ ولذا ينبغي أن يحذر المرء أن يقع في غيبة المؤمنين أو غيرهم، أو يقع في أعراضهم، وكيف لا يحذر وقد علم أن الجزاء أن يحبسه الله عز وجل على جسر جهنم تلفحه النار ويقال له: اخرج مما قلت، وفي الدنيا قد يخرج الإنسان مما يقول بأن يكذب نفسه ويقول: أنا كذاب، لقد كذبت في هذا الشيء، ويعتذر لمن اغتابه أو طعن في عرضه حتى يقبل منه، وذلك في الدنيا، أما يوم القيامة فلا يقول: أنا كذاب، فقد فضحه الله عز وجل، وإنما يوبخ بأن يقال له: اخرج مما قلته، وهو لا يدري كيف يخرج مما قال.
وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل يدخل رجلاً في النار قد كذب في الدنيا وادعى أنه رأى رؤيا مع أنه كاذب فيها ويقول له: تريد أن تخرج اعقد شعيرتين، أي: خذ شعيرتين واربطهما وحين تربطهما نخرجك من النار، وهذا تعجيز لهذا الإنسان، حيث يظل في النار ولا يخرج منها إلا أن يشاء الله سبحانه.
ومثله ما ورد في الحديث المتقدم أن الإنسان يوقف على جسر جهنم ويقال له: اخرج مما قلت، وخروجه أن يخبر الناس أنه كان كذاباً، ومعلوم أن المؤمن لن ينتفع بما يقول عن نفسه: أنا كنت كذاباً، وإنما الغرض من ذلك: تحقير هذا الإنسان وتوبيخه وتعجيزه في هذا الموقف، ويظل كذلك حتى يأذن الله فتوخذ من حسنات المغتاب إن كان له حسنات بقدر مظلمة من اغتابه وتوضع في حسنات من اغتابه، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.