قال الله تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] واضح أن خطاب هذا الرجل المؤمن مع قومه فيه التلطف وفيه اللين وفيه الحجج العقلية والإقناع، فلم يأمرهم مباشرة، ولكنه تلطف في الوصول بهم إلى أن يعرفوا الحق، ويحكموا عقولهم فيما يقوله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال متلطفاً بهم: يا قوم أنا أريد لكم الخير، وهنا أظهر هذا المؤمن الإيمان الذي أبطنه في قلبه، فخوفهم من بطش الله وبأسه في يوم القيامة، وقال لهم قبل ذلك: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ} [غافر:29] والظهور: هو العلو والرفعة في الأرض، فهم ملوك في الأرض، وكانت لهم المناصب والقوة، ولكن يوم تأتون إلى ربكم سبحانه لا حول لكم ولا قوة، وقد كانوا في الدنيا عالين في الأرض، وغالبين غيرهم، قال: {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] أي: إذا جاءنا العذاب من عند الله فمن الذي يدفع عنا نقمته وعذابه؟ فهذه الحجج العقلية التي قالها تقتضي أنه لا بد وأن يؤمنوا بما يقول، فقد جاءهم موسى بتسع آيات بينات، وكانوا يرونها ولا يقدرون عليها أبداً، وهي: يده التي أخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين، وألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فكذبوا واعرضوا فأرسل الله عز وجل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آية وراء آية، فكل آية تأتيهم من هذه الآيات يجأرون إلى موسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، فهم عرفوا أنهم لا قبل لهم ولا طاقة لهم بهذه الآيات التي يأتيهم بها موسى من عند ربه سبحانه وتعالى.
وفرعون فهم ذلك، ومع ذلك استخف بمن معه، فملكه ورياسته جعلته لا يأبه لذلك، المهم أن يكون هو الغالب العالي على غيره، فطرد موسى وأظهره أمام الخلق أنه كذاب، فقال فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29] فالإنسان الذي بيده القوة والمنصب والرياسة، إذا أقنعته بالعقل في أشياء معينة لا يعمل عقله فيها، فالرأي رأيه طالما أن القوة معه، وهذا في كل الأرض يحدث ذلك، فمهما تكلم البشر عن الحرية وعن المساواة وعن العدل وعن الديمقراطية وعن كذا وكذا، فإنهم يكذبون إذا لم تكن شريعة الله عز وجل تحكمهم، فلا بد من وازع في القلب، فالقلب يخاف من الرب سبحانه وتعالى، ويجعل الإنسان لا يعصي الله ويمتنع من أخيه الإنسان أن يؤذيه؛ لأنه يعلم أنه سيرجع إلى الله وسيحاسبه يوم القيامة.
أما الخوف من الحكومة أو من الشرطة أو من القوة فهذا خوف في الظاهر، وهذا في طبيعة البشر، فلذلك ربنا سبحانه نزل الشريعة التي فيها الحكم بالعدل، وفيها التخويف من الله سبحانه وتعالى بأنه سيجازي ويحاسب الناس يوم القيامة، وأنهم إليه راجعون ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، وفيها الحكم الذي يُحْكَم به العباد، فيأمر الله السلطان بأن يحكم بما أنزل الله، فيقطع يد السارق، ويرجم الزاني الثيب، ويجلد الزاني البكر، ويجلد من يقذف المحصنات المؤمنات وهكذا، فيقيم الحدود التي أمر الله عز وجل بإقامتها.