بين الله سبحانه في الآية فضله على العباد فقال: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر:52]، والإنسان المؤمن يعلم ذلك، ويقول: بلى نعلم ونستيقن أن الرزق رزق الله سبحانه، وأن المال مال الله، وأن العبد عبد الله، وأن الله يعطي ما يشاء لمن يشاء، كما أن المؤمن يعلم أن الله إذا أعطاه في الدنيا لم يعطه لفضله عند ربه، بل ما أعطاه الله سبحانه إنما هو محض فضلٍ ورحمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وليس معنى ذلك أن الله لا يكرم المؤمنين، بل قد يكون عطاء الله سبحانه للعبد إكراماً له، وقد يكون عطاؤه له استدراجاً له؛ ولذلك فالمؤمن لا يأمن مكر الله سبحانه، ولا يأمن استدراج الله، فإذا أعطاه الله المال عرف حق الله سبحانه في هذا المال، فأخرج الزكاة، وأعطى من أوجب الله عليه أن يعطيهم من قرابته، أو ممن يحتاجون إليه، بل إن المؤمن وصل إلى ثقة بأن المال مال الله، وأن المال لا ينقص أبداً من الصدقة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما نقص مال من صدقة.
إذ إن الإنسان مهما أعطى لله، فالله سبحانه يخلف عليه، والله وحده هو صاحب المال، وهو صاحب الرزق سبحانه، يبسط ويوسع على من يشاء من عباده، وليس كل من وسع الله عز وجل عليه يحبه، وليست التوسعة شرطاً لحب الله، بل كم قد أعطى الله إنساناً كافراً من الدنيا أموالاً كثيرة، فكان ذلك استدراجاً له، وكم منع من إنسان طيب فقيه في هذه الدنيا، حتى إنه لا يجد ما يأكله، وقد يبيت الليلة الأولى والثانية والثالثة ولا يجد ما يملأ بطنه! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شبع في الدنيا من خبز شعير عليه الصلاة والسلام، حتى فتحت عليه الدنيا، فلما فتحت عليه الدنيا قبضه الله سبحانه تبارك وتعالى، وما استمتع مما في الدنيا بشيء، وقد كان الصحابة يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم ويبكون لما عاش عليه من الكفاف، وكان أبو هريرة يصنع العيش الحوارى، وهو الخبز الأبيض، ويطعم الناس ويبكي ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذاق هذا، فالمسلمون يستمتعون بالشيء الذي فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم به، وقد ذهب النبي ولم يأخذ من هذه الدنيا شيئاً، فصلوات الله وسلامه عليه.
وقد ثبت أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: كان يمر الهلال وراء الهلال وراء الهلال، ثلاثة أهلة، أي: شهران يمران على بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوقد في بيته ناراً لطبيخ أو لطعام عليه الصلاة والسلام، وإنما كان الطعام التمر والماء! ولم يمنعه الله الدنيا ظناً بها عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد الله عز وجل أن يجعله وصحبه القدوة والأسوة لمن بعدهم، حتى نعلم أن الله إذا أعطى العبد من الدنيا ليس معناه أنه يحبه سبحانه تبارك وتعالى، ونعلم أن الله إذا حرم آخر منها ليس معناه أنه يكرهه، وإنما قد يعطي لإنسان من المؤمنين من فضله سبحانه؛ لأنه لا يصلح لهذا العبد في علم الله إلا ذلك، فيتفضل الله سبحانه وتعالى عليه، أو لكون الله يعلم حيث يعطي هذا المؤمن أنه سينفق من هذا المال على من يحتاج إليه، وأنه سيضعه في حقه، فأعطاه الله سبحانه، وجعله قدوة لغيره، وقد يحرم الله إنساناً آخر مع أنه مؤمن؛ لأنه يعلم أن هذا سيصبر على الفقر، وأنه يكون قدوة في ذلك، فمنعه ليكون إماماً وقدوة لغيره في ذلك.
فالله أعطى الأول علماً منه أن هذا لو حرمه لضاع وفسد، فأعطاه رحمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وحرم الثاني مع أنه من المؤمنين لما سبق في علم الله أنه لو أعطاه لفسد ولطغى، فمنعه الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالله بيده الفضل، يبسط لمن يشاء ويقدر، أي: يضيق على من يشاء سبحانه تبارك وتعالى، فإذا رأيته أعطى إنساناً ومنع آخراً، فاعلم أنه لحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى، وبيان آية من آياته.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر:52]، فالمؤمن ينبغي أن يرضى بما هو فيه، ويحمد الله عليه ويردد في نفسه: الله أعلم بحالي، أليس من الممكن أنه لو أعطاني أكثر مما أنا فيه أني قد لا أصلي الفجر، أو لو أعطاني أكثر مما أحوزه الآن قد لا أدعوه، فالله يحب أن يسمع صوتي وأنا أناجيه وأقول: يا رب! يا رب! وينتبه العبد هنا إلى أنه لو امتنع عن الدعاء فقد يجلب على نفسه السخط من الله سبحانه، كما أن الإنسان لو اطلع على الغيب لرضي بما هو فيه من الواقع، ارض بما قسم الله سبحانه تبارك وتعالى لك، واعلم أن الذي يدبر الكون هو الله وحده، العليم الحكيم سبحانه تبارك وتعالى، وهو أعلم بما يصلحك أكثر من نفسك سبحانه تبارك وتعالى، وما يدريك! فقد يمرضك وأنت تريد أن تعمل شيئاً معيناً، فلا تعمله بسبب المرض، فلعلك لو خرجت إلى هذا الخير بظنك وبزعمك لفاتك باباً آخر أدركته بمرضك، فكان المرض الذي أنت فيه أفضل من هذا العمل، وما يدريك! لعلك لو خرجت إلى عمل من أعمال الخير لغلبك الشيطان فراءيت وسمعت بعملك، فالله منعك من الرياء ومن السمعة عندما ابتلاك بالمرض، فأنت لا تدري ما الذي يدبره الله سبحانه بعلمه وقدرته وحكمته، فعليك أن ترضى بقضاء الله سبحانه تبارك وتعالى، كما ينبغي عليك أن تدرك أن القضاء واقع رضيت أم لم ترض، إلا أنك في الرضا أخذت الأجر، وفي السخط حل عليك سخط الله سبحانه تبارك وتعالى.
لذلك على المؤمن أن يؤمن بالله تمام الإيمان، فيؤمن بحكمة الله، ويؤمن بقدرة الله، ويؤمن أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله يعطي من يشاء تفضلاً وتكرماً منه، ويمنع من يشاء بحكمته وعدله سبحانه تبارك وتعالى، فإن أعطاك فهو محض منة منه، وإن منعك فلم يمنعك حقاً ليس لك عند الله، بل يعطيك ما كتبه على نفسه وتفضلاً منه لعباده سبحانه تبارك وتعالى.
قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر:52]، فالمؤمن من يتفكر ويتأمل في قضاء الله وقدره، ولا يدخل الجنة إلا من يؤمن بأصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره، كل من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.