قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] الصابرون يوفون الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، وأتى بأداة الحصر هنا كأن هؤلاء اختصهم الله سبحانه تبارك وتعالى بأن قربهم منه وأعطاهم الفضل العظيم، وابتلاهم في الدنيا فكان البلاء عليهم شديداً جداً، وعندما نقرأ في سير الصحابة والتابعين وغيرهم من الصالحين نرى كيف ابتلى الله عز وجل هؤلاء الصحابة الابتلاء العظيم، أوذوا وعذبوا في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، فتمسكوا بدينهم وصبروا عليه حتى تكون لهم الآخرة، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
فصبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عيشهم في مكة عيشاً شديداً، فصبروا على الجوع حتى إنهم ليأكلون الأشياء الشديدة، وكانوا لا يجدون ما يأكلونه فيربطون الحجارة على بطونهم، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في مكة، وفي المدينة فعل صلوات الله وسلامه عليه.
حوصروا في شعب أبي طالب ثلاث سنوات لا يأتيهم أحد من خارجهم بطعام، ولا يمكن أن يتزوج منهم إنسان من مكة من غير المؤمنين، فضيقوا عليهم أشد التضييق، وصبر المؤمنون مع النبي صلوات الله وسلامه عليه على دين الله رب العالمين عندما ابتلاهم الله سبحانه بالأذى من هؤلاء الكفار.
فكانوا يأخذون بلالاً فيسحلونه على الأرض ويجرجرونه على ظهره على الأرض في حر الظهيرة، في درجة حرارة تجاوزت ستين درجة مئوية في صيف مكة المتقد الصعب الشديد، يجرجرونه على الأرض ويضعون فوق صدره الصخرة العظيمة وهو يقول: أحد أحد، لا يفتن عن دينه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويصبر على ذلك أعظم الصبر.
وآل ياسر يمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لهم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، يعذبون ويعلقون، وتقتل سمية أم عمار، يطعنها أبو جهل بحربة في قبلها فيقتلها لعنة الله عليه، فتكون شهيدة رضي الله تبارك وتعالى عنها، ولا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلصهم من هؤلاء فيمر بهم ويصبرهم ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
وهذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اسمه خباب رضي الله تبارك وتعالى عنه، كانوا يلقونه على جمر على ظهره، فلا يطفأ هذا الجمر إلا ودك ظهره رضي الله تبارك وتعالى عنه، يفعلون به هذا الفعل البشع حتى إنه يكاد أن تزهق روحه في ذلك ويصبر على أمر الله سبحانه تبارك وتعالى.
صبروا لأمر الله فنجاهم الله سبحانه تبارك وتعالى مما كانوا فيه من الأذى حتى فتح الله عز وجل للمؤمنين الفتح العظيم، وجاء نصر الله، وبشر الله سبحانه تبارك وتعالى هؤلاء المهاجرين المجاهدين في سبيل الله بالأجر العظيم، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، الصابرون لا يوفون إلا هذا الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يعطون إلا ما يليق بالله عز وجل أن يعطيه لهم، فيوفون أجرهم بغير حساب، فيعطى الإنسان الحسنة بعشر أمثالها، والآخر الحسنة بسبعمائة، وهذا يدخل الجنة بدون حساب، خذ ما شئت، فيعطي الله عز وجل لهذا الصابر الأجر بغير حساب.
والصابرون ذكرهم الله عز وجل في كتابه سبحانه، ومدحهم جل وعلا، ومن أعظم ما يعطيهم أن يعطيهم الأجر بغير حساب ولا نهاية، وكذلك يكون موقفهم بين يدي الله عز وجل يسيراً، فصبروا على الجوع والأذى، وصبروا على هذه الدنيا، فإذا أتوا يوم القيامة وقيل لهم: نحاسبكم، قالوا: علام نحاسب؟ لم تعطنا مالاً فتحاسبنا عليه، وقد ابتلينا في كذا وكذا فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فلا يقفون مع الناس موقفاً طويلاً، ولكن حساباً يسيراً، ويدخلون إلى جنة الله سبحانه تبارك وتعالى، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.
روى الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر)، إن الله سبحانه تبارك وتعالى يعطي العبد العطاء منه سبحانه، فمن أعظم ما يعطاه العبد الصبر، فيصبر، والصبر أنواع، يصبر على طاعة الله فلا يزال مستقيماً على صلاته وصيامه، وعلى كل عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك يصبر على ترك المعاصي، لا تفعل كذا لا تفعل كذا فيبتلى، وتأتيه الأشياء من الدنيا أمام عينيه لينظر إليها فيغض طرفه ولا ينظر إليها، ولا ينظر إلى ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يمد يده ولا لسانه ولا شيئاً إلى ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا من فضل الله عز وجل عليه.
كذلك يصبر على قضاء الله وقدره إذا نزل به البلاء، فيصبر ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
هؤلاء هم الذين مدحهم الله بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وقال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، فهؤلاء الصابرون لهم هذا الأجر والفضل من الله عز وجل أولاً وآخراً، فهو الذي مدحهم سبحانه تبارك وتعالى بإيمانهم، وهو الذي وفقهم لهذا الإيمان.
فيكون الإيمان فضلاً من الله وهبة منه سبحانه، أن هدى الشخص إلى الهدى والإيمان، ثم رزقه الصبر سبحانه، ثم ابتلاه فصبر بما رزقه الله، ثم أعطاه الجنة فضلاً من الله ونعمة منه، (ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر).
كذلك جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم)، انظر! يقول لأصحابه: سيأتي بعدكم أيام الصبر، وكأنه قال هذا الشيء بعدما فتح الله عز وجل لأصحابه شيئاً من الدنيا، فأخبرهم أنه ستأتي أيام أخر أشد فتناً مما أنتم فيه، وهذه الأيام يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن المتمسك فيها بدينه له أجر كبير، فقال: (المتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه) الصحابة متمسكون بالكتاب والسنة، متمسكون بأمر الله وبعبادة الله سبحانه، كذلك من يتابعهم في ذلك ويتمسك بأمر الله عز وجل له أجر خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث.
وفي حديث آخر عند الطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (له أجر خمسين شهيداً)، بشارة من الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن يتمسك بدين الله سبحانه تبارك وتعالى في وقت غربة هذا الدين، وفي وقت كل الناس على غير دين الله سبحانه تبارك وتعالى.
حتى من يقول: أنا مسلم ينكر على الإنسان المتمسك بدينه، ويستهزئ به، يقول: أنا مسلم وأنا أصلي وأنا كذا، ويسخر منك لأنك لك لحية، ويسخر منك لأنك تلبس ما كان يلبسه النبي صلى الله عليه وسلم من قميص وثياب، فيسخر من المؤمن، فلا يجد من يعينه على طاعة الله، بل يجد من يصده ويمنعه عن طاعة الله.
فهذا المؤمن كالقابض على الجمر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فله أجر خمسين شهيداً)، وهذا مما يطمئن المؤمن أن يجد نفسه غريباً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء) تجد المرأة المؤمنة من حولها يسخرون منها ويقولون: ما هذا النقاب الذي تلبسينه؟ تلبسين خيمة؟ تسوي مثل العفريت؟! فيسخرون منها، فتجد نفسها في غربة بين الناس، فتطمئن بذلك، وتطمئن بذكر الله، وتطمئن بوعد الله، وتثق فيما قال الله سبحانه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] فيفرح الإنسان المؤمن أن يكون له من الأجور كأجر خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكأجر خمسين شهيداً، وتكون له الجنة بغير حساب، فاصبروا على أمر دينكم وتمسكوا به، وإياكم والفتن والبدع! واحذروا من الأهواء، والمؤمن يلزم طريق الهدى ولا يضره قلة السالكين، ويحذر من طرق الضلالة ولا يغتر بكثرة الهالكين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.