الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة الصافات: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:171 - 182].
ختم الله سبحانه تبارك وتعالى سورة الصافات بوعده سبحانه تبارك وتعالى لعباده المرسلين بأن ينصرهم سبحانه وأن يجعلهم هم الغالبين.
قال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171] أي: سبق وعدنا لعبادنا المرسلين، وقضينا بذلك وقدرناه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وعداً من الله، ووعد الله حق: أنه ينصر عباده ورسله، وأن من اعتصم بالله سبحانه وقاه سبحانه وكان معه، ومن استنصر بالله فتح عز وجل له، وكان سبحانه معه، حتى وإن تأخر النصر، فإنه سبحانه لم يقل: إن النصر يأتي سريعاً، بل في آخر سورة يوسف قال الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
فالله سبحانه تبارك وتعالى يقدر ما يشاء، والعادة منه سبحانه أنه ينصر عباده، إذا استنصروا به وإذا اعتصموا به، وإذا لجئوا إليه، وإذا أقاموا دينه، وإذا توكلوا عليه، فالنصر له أسباب، فيأخذ المؤمن بأسباب النصر: من توكل على الله سبحانه، ومن دعوة إلى الله، ومن توحيد لله سبحانه، ومن عقيدة سليمة في قلبه، ومن إعداد القوة لأعداء الله سبحانه، امتثالاً لقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
فمن اعتصم بالله سبحانه فالله يعصمه والله ينصره، ولكن هل معنى ذلك أن عباد الله المؤمنين لا يُقتلون؟ وأنهم لا يفتنون؟ وأنهم لا يهزمون أحياناً؟
صلى الله عليه وسلم لا، ولكن النتيجة في النهاية أن ينصر الله عز وجل دينه، ولكن لا بد من البلاء، كما قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
فلا بد من المحن، ولا بد من البلاء، حتى يميز الله الخبيث من الطيب، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى هذه السورة المكية للنبي صلى الله عليه وسلم لتثبيته، وليطمئن المؤمنين فيما هم فيه من بلاء ومحن، فقد نزلت هذه السورة في وقت بلاء على النبي صلى الله عليه وسلم، ووقت محن على المؤمنين، فأنزل الله هذه السورة ليثبتهم ويطمئنهم؛ لأنهم سينصرون يوماً من الأيام، وهذا النصر جاء بعد نزول هذه السورة بسنين، فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو خائف من المشركين، والمشركون يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم ويبحثون عنه، ويجعلون دية لمن يأتي به صلوات الله وسلامه عليه، ويهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهنالك يدعو إلى ربه سبحانه، حتى نصره الله سبحانه في يوم بدر، ثم هُزم المؤمنون في يوم أحد، ثم بعد ذلك يأتي يوم الخندق، وينصر الله عز وجل المؤمنين، وفر المشركون، وأتى جند من جند الله عز وجل من رياح بعثها الله عز وجل على المشركين من غير أن يقاتل المؤمنون، ولكنهم خندقوا حول المدينة، وانتظروا الفرج من الله، فجاء نصر الله سبحانه وتعالى، فينتصرون أحياناً وقد ينتصر الكفار عليهم حيناً، حتى يأتي وعد الله سبحانه، ويأتي نصر الله، قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] أي: فتح مكة، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:2 - 3].
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم نصره الله سبحانه وفتح له مكة التي كانت دار كفر، فصارت معقل الإيمان بعد ذلك، فتحها الله عز وجل بعد نزول هذه السورة بسنين، فنصر الله عز وجل لم يقل الله: إنه يأتي سريعاً، ولم يقل: إنه مجرد ما يدعوه إنسان يأتيه النصر حالاً، وإنما قال لنا: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] وقال لنا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:110] أي: أصابهم اليأس من إيمان قومهم، فلم يؤمنوا، وتعبوا من قومهم الكفار {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110] أي: ظنوا أن قومهم لن يدخلوا في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن الله عز وجل سينصرهم يوماً من الأيام، ولكن تأخر وعد الله سبحانه، وتأخر نصر الله سبحانه، وظن المؤمنون أن وعد الله سبحانه لن يأتي: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110]، فظن الرسل واستيقنوا أو ظنوا ظناً غالباً أن قومهم لن يدخلوا في الإيمان، وأتباع الرسل من المؤمنين ظنوا أن الله لن يفعل هذا برسله ولن ينصرهم، فإذا بنصر الله يأتي في هذا الحين، ولذا قال: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110].
فينجي الله سبحانه تبارك وتعالى من يشاء، وليس شرطاً لنصر الله عز وجل أنه لا يكون هناك قتلى، بل لابد وأن يوجد قتلى، بل قد قتل أعداء الله في حين من الأحيان أنبياء الله على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فقتلوا زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقتلوا يحيى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأرادوا قتل المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فرفعه الله سبحانه، وأرادوا قتل موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالله عز وجل يخبرنا عن قصص هؤلاء: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111] أي: ليس حديثاً كذباً، ولكن الله عز وجل يخبرنا بالحق، حتى نطمئن بوعد الله سبحانه، وننتظر نصر الله سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171].
وعد من الله لكل الرسل أن الله ينصرهم، حتى وإن قتل أناس من المؤمنين، فمصيرهم إلى الجنة، وهم من أعظم الشهداء.
وقوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:172] أي: رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
وقوله: {وَإِنَّ جُندَنَا} [الصافات:173] أي: جند الله، فإذا كان الإنسان يستحق أن يكون من جند الله استحق نصر الله سبحانه، فإن جند الله هم الذين في قلوبهم العقيدة السليمة، وفي قلوبهم الإيمان بالله سبحانه، وتوحيد الله سبحانه، وطاعة الله سبحانه، والتوكل على الله سبحانه، ويعدون العدة لأعداء الله، فهؤلاء يغلبون الكفار.