قال تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ:12] هذا شيء آخر سخره الله عز وجل لسليمان عليه الصلاة والسلام.
فالجنة هم الشياطين، يسخرهم الله عز وجل له فيخافون منه، ويهابونه، وأذلهم الله عز وجل له ولسلطانه بأمره سبحانه وتعالى، فيعملون مسخرين لسليمان عليه الصلاة والسلام.
وذكر الله تعالى تسخير الرياح لسليمان في سورة الأنبياء فقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء:81] فجعل الرياح تجري بأمر سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81] أي: أن الله عز وجل أعلم بمن يستحق ذلك فأعطاه.
وسليمان كان قد دعا ربه سبحانه فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] وكان من صغره قد فطنه الله عز وجل وأعطاه الحكمة العظيمة، حتى إنه ليقضي بقضاء من يفهم بتفهيم الله عز وجل له، ويحتاج إليه أبوه فيأخذ بقول ابنه وهو صبي صغير، وقالوا: إنه تولى الخلافة بعد أبيه وله سبع عشرة سنة، وقيل: بل وله ثلاث عشرة سنة، مما يدل على أنه كان صغيراً، فقد كان خليفة بعد أبيه من بعد وفاته بأمر من الله سبحانه وتعالى، وبما أعطاه الله سبحانه وتعالى من حكمة، وقدرته على الفصل في الخصومات؛ فلذلك أحب الناس أن يكون هو الذي عليهم، فكان بأمر الله سبحانه وتعالى هو الخليفة والملك بعد أبيه داود.
ولقد من الله على داود بالملك وكان قبل ذلك راعي غنم، وما من نبي إلا ورعى الغنم، ثم صار بعد ذلك في هذا الملك العظيم، أما ابنه سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى خيلاً عظيمة فنظر إليها يوماً من الأيام وهي تجري أمامه فأعجبه منظرها، فجاء عليه وقت صلاة فنسي الصلاة من جمال الخيل، فلما تذكر الصلاة قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] وعلم أن الخيل التي نظر إليها فأعجبته ضيعت عليه الصلاة، فقال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:33].
قيل: طفق مسحاً أي: قتلاً، وكان ذلك جائزاً له ففعل ذلك، وقيل: بل كان يمسح عليها فالله أعلم بذلك، ولكنه رجع إلى ربه سبحانه وتعالى تائباً إليه، ودعا ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ذلك.
وأراد أن يكون له مائة من الولد، قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة فيكون لي من كل واحدة ولداً فيكون لي مائة من الولد يجاهدون معي في سبيل الله، وهذه نية عظيمة وجميلة وطلب حسن، وإذا بالملك بجواره يقول: قل: إن شاء الله، فلم يقل، وكأنه نظر إلى أن النية الصالحة تغني عن ذلك، أو أنه غفل عن ذلك، فلم يقل: إن شاء الله، فما ولدت منهن إلا امرأة واحدة فقط من المائة، ووضعت شق غلام أي: نصف غلام غير مكتمل في بطن أمه لا يصلح لشيء، ولهذا قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34] أي: رجع إلى ربه فتذكر أنه لم يقل: إن شاء الله، فأناب إلى ربه ودعا ربه تائباً إليه وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] فسأل ربه فأعطاه الله سبحانه وتعالى ملكاً لا يكون لأحد بعد سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
والله عز وجل سخر لسليمان الجن يعملون بين يديه بإذن ربه سبحانه كما قال تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سبأ:12] إذ ليس هو المالك المتصرف، ولكن بإذن الله، فالله هو مالك الملك سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} [سبأ:12] أي: لقد أمرنا الجن بطاعة سليمان ومن ينحرف عن طاعة الله سبحانه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12] فجعل له العذاب يوم القيامة على ذلك.
كذلك في الدنيا يؤدبه ربه سبحانه بأن سخر لسليمان ما يؤدب الجن به، فسليمان يؤدب الإنس والجن بتسخير من الله سبحانه وتعالى، ومن ينحرف عما يقوله سليمان ولا يطيع بل يعصي فجزاؤه: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12] أي: من عذاب النار المستعرة.