جلس النبي صلى الله عليه وسلم مرة يدعوهم إلى الله سبحانه، وإذا بهم يتشاورون للرد عليه صلى الله عليه وسلم وتعجيزه، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:90 - 93] ومع كل هذا يقولون: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:93]، والجواب {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:93]، فأنا بشر أوحى الله سبحانه وتعالى إلي بهذه الرسالة، فأنا مبلغ عن رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه.
قال لهم ذلك وردوا عليه بأنهم لن يؤمنوا له صلى الله عليه وسلم، وإذا بـ أبي جهل لعنة الله عليه يقوم ويقول للكفار: يا معشر قريش! إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غداً بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه -يعني: شدخت وكسرت به رأسه- فأسلموني بعد ذلك أو امنعوني؛ فقالوا له: نحن معك، ولما أصبح أخذ الحجر، وسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يتوجه إليه بحجر ما يطيق حمله، فكاد يهوي به، فإذا به يفزع، وتتيبس يداه، ولم يستطع إلقاء الحجر فجرى فزعاً من النبي صلوات الله وسلامه عليه! فإذا بالكفار يتعجبون فسألوه عما حدث فقال: لما دنوت منه -صلوات الله وسلامه عليه- عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل خصرته ولا أنيابه، وما رأيتُ مثله فحلاً قط، فهم بي أن يأكلني! فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك الفحل هو جبريل نزل على هذه الصورة، ففزع أبو جهل وابتعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما علم النضر بن الحارث بذلك قال: يا معشر قريش! إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة، قد كان غلاماً حدثاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن ولا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هجزه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم، وكان هذا الرجل من شياطين قريش لعنة الله عليه، وكان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كما ذكرنا قدم الحيرة ببلاد الفرس، وسمع منهم الأساطير من قصص رستم واسكنديار، فكان كلما جلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس يدعوهم إلى الله عز وجل، جلس هذا الخبيث يحدثهم بقصص رستم واسكنديار، وبعد ذلك يقول لقريش: يا معشر قريش! أنا والله أحسن حديثاً منه، فهلموا إلي فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسكنديار، يحكي لهم قصص وخرافات، وهو الذي تبجح وقال: سأنزل مثلما أنزل الله، وقيل: إنه نزل فيه ثمان آيات، وقيل: أكثر من ذلك.
وقد قال الله سبحانه وتعالى في شأنه: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15].
ولما تحيرت قريش في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نبعث لليهود، وكانوا يسكنون قريبين منهم في مكان اسمه زفر، فقالوا: نبعث لهم ونسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو حق أم باطل؟ فأرسلوا إليهم النضر بن الحارث ومعه عقبة بن أبي معيط، إلى أحبار يهود زفر، فسألاهم عن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو حق أم باطل؟ فإذا بحبر منهم يقول: سلوه عن ثلاثة أشياء، إذا أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم بها فليس بنبي: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه، وسلوه عن الروح.
وقدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: لو كنت نبياً حقاً فأخبرنا عن هذه الأشياء الثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: غداً سأخبركم، فلبث خمسة عشر يوماً لم ينزل عليه الوحي تأديباً له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله، ثم نزلت الآيات من سورة الكهف في ذلك، وأخبرهم ربنا سبحانه وتعالى عن أمر الروح، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
وكان النضر بن الحارث ممن يجادل النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل، وجلس مع النبي مرة فأفحمه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام وتلا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] فلما قال ذلك بهتوا كلهم وقاموا، وذهب النضر إلى عبد الله بن الزبعرى وقال له: إنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، وكان الوليد بن المغيرة بين القوم فقال: لم يستطع أحد أن يرد عليه؟! فالتفت إلى ابن الزبعرى فقال: لو كنت موجوداً لرددت عليه، وقلت له: إذا كنا وما نعبد حصب جهنم، فإننا نعبد الملائكة، فهل الملائكة تدخل النار؟ والنصارى يعبدون عيسى، فهل عيسى سيدخل النار؟ فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ذلك له صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
إذاً: يفهم من هذه الآيات أن الذي يدخل النار من رضي بهذه العبادة دون من لم يرض بها، وعيسى والملائكة لم يرضوا بهذه العبادة من دون الله عز وجل، وقد قتل النضر بن الحارث صبراً في يوم بدر، فقد كان من أسرى يوم بدر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقتل، والذي قتله هو علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه.