الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29].
يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه: إن كن يردن الحياة الدنيا وزينتها فيمتعهن النبي صلى الله عليه وسلم ويسرحهن سراحاً جميلاً، وإن كن يردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منهن أجراً عظيماً.
فخيرهن النبي صلى الله عليه وسلم فاخترن الله ورسوله، واخترن الدار الآخرة، وتركن الدنيا بما فيها، فكان لهن عند الله عز وجل أعظم الأجر، قال سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29].
وقدمنا أن الله سبحانه ربى نبيه صلى الله عليه وسلم أعظم التربية فكان عبداً لله، عبد ربه حق العبودية، وتوجه إلى ربه سبحانه بكل طاعة أمره الله عز وجل بها، وتواضع لربه عليه الصلاة والسلام فاستحق أعظم الدرجات عند الله سبحانه، قال له ربه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79].
فجعل له الله عز وجل يوم القيامة المقام المحمود بعبادته لربه، وبتواضعه لله، وبانصرافه عن الدنيا، كانت تأتيه الدنيا عليه الصلاة والسلام فإذا به ينفق ويخرج المال، وكان يحزن أن يبقى عنده المال أكثر من ليلة، فيصلي بالناس الفجر ثم يهرع إلى بيته عليه الصلاة والسلام، فيتعجب الناس لسرعة النبي صلى الله عليه وسلم في دخول بيته، فيقول: (تذكرت مالاً قد آتانيه الله فهو عندي)، فكان صلى الله عليه وسلم يسرع لينفقه، وليخرجه لمن يستحقونه ويقول: إنه لا يفرح أن يبيت ثلاث ليال وعنده مال يدخره صلى الله عليه وسلم، ولا يحب ذلك بل يصرفه هكذا وهكذا وهكذا، فأنفق هذا المال في كل وجه من وجوه طاعة الله سبحانه وتعالى ولم يبق شيئاً.
فهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لا يبقي شيئاً من المال عنده، إلا ما يكون من نفقة لنسائه وما عليه من دين، أما غير ذلك فكان ينفق المال كله صلوات الله وسلامه عليه، وكان بلال هو المسئول عن نفقة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يأمره النبي صلى الله عليه وسلم: (أنفق بلال! ولا تخف من ذي العرش إقلالاً) أي: أنفق يا بلال هذا المال في سبيل الله عز وجل، ولا تخف أن يضيق الله عز وجل علينا، ما كان الله ليضيق علينا سبحانه وتعالى.
هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كرمه العظيم وتواضعه، وجاء حديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة: (جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء) جبريل كان جالساً في يوم مع النبي صلى الله عليه وسلم ونظر جبريل إلى السماء.
(فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة) يعني: أول مرة ينزل فيها هذا الملك من ساعة أن خلقه الله عز وجل.
(فلما نزل هذا الملك قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك، قال: أملكاً نبياً يجعلك أو عبداً رسولاً؟!) أي: ربنا يخيرك ماذا تحب أن تكون، هل تحب أن تكون ملكاً مثل ما كان داود وسليمان ملكين وتكون نبياً، أم تحب أن تكون عبداً وتكون رسولاً لله سبحانه وتعالى؟ (فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: تواضع لربك يا محمد!) صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه استشار جبريل ماذا أختار؟ هل أكون ملكاً نبياً أو أكون عبداً رسولاً؟! فأشار إليه أن تواضع، يعني: كن عبداً لله عز وجل، فتواضع النبي صلى الله عليه وسلم وطلب من ربه أن يكون عبداً رسولاً.
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، فرفعه الله على جميع خلقه أعظم منزلة وأعظم مكانة، فجعل له لواء الحمد يوم القيامة، وجعل له الشفاعة العظمى، وجعل له المقام المحمود، وجعله أول من يهز حلقة الجنة وأول من يدخلها، ولا تفتح الجنة لأحد قبله صلوات الله وسلامه عليه، فهو عندما تواضع لله عز وجل رفعه الله أعظم المنازل.
كان يجلس عليه الصلاة والسلام للطعام وللشراب جلسة العبد، ويقول: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد) صلوات الله وسلامه عليه، فأعظم مراتب النبي صلى الله عليه وسلم منزلة العبودية لربه سبحانه.
فهذا النبي الكريم العبد الرسول عليه الصلاة والسلام الذي تواضع لربه هل يعقل أن يكون له من النساء من تطلب هذه الدنيا؟ لا تصلح هذه المرأة أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك نزلت الآية تخير هؤلاء: إذا كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فأنتن لا تصلحن للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] أي: أدفع لكن المتعة، أعطيكن ما تستمتعن به من مال ونفقة.
وقوله تعالى: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] أي: أطلقكن طلاقاً جميلاً، أي: طلاق سنة ليس فيه أذى وليس فيه إعضال وليس فيه إمساك مع التأذي، يسرحهن صلى الله عليه وسلم إذا كن يردن الحياة الدنيا وزينتها.
وإن كن يردن الله ويردن الرسول عليه الصلاة والسلام ويردن الدار الآخرة، فعليهن أن ينتظرن من الله عز وجل أعظم الأجر، وهو الأجر العظيم الذي يليق بعطاء الله سبحانه وتعالى.