وقد جاءت أحاديث في الصحيحين في هذا المعنى، منها ما جاء في صحيح البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين.
وقد كان أنس بن النضر من شجعان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المؤمنين الصادقين، رضي الله تبارك وتعالى عنه وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي يوم بدر لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين جميعهم بالخروج، وإنما أمر من كان سلاحه حاضراً أن يخرج، حتى يلحقوا عير قريش القادمة من الشام قبل أن تفوتهم، فلم يكن الخروج من أجل القتال وإنما من أجل العير؛ ليغنموها ويرجعوا بها؛ فلذلك لم يكن الأمر بالخروج واجباً على الجميع، وإنما على من كان سلاحه حاضراً، فلم يخرج أنس بن النضر رضي الله عنه؛ لأن سلاحه لم يكن حاضراً في ذلك الحين.
فخرجوا وقاتلوا فكانوا أعظم الناس عند الله عز وجل، واطلع الله سبحانه على أهل بدر فقال لهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
أي: مهما عملتم من ذنوب، وحاشا لهم أن يقعوا في كبائر يعصون بها الله سبحانه، ولكن الله من عليهم بذلك ليطمئنوا، فأنتم وأنتم في الدنيا من أهل الجنة، ومصيركم إلى الجنة، وقد غفرت لكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
ولم يحضر أنس بن النضر، وسمع ذلك، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع)، وخاف أن يقول غيرها، أو أكثر من ذلك.
وفي رواية مسلم قال أنس رضي الله عنه: عمي الذي سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً.
يعني: أن أنس بن مالك سموه على اسم عمه أنس بن النضر أما أبوه مالك فمات كافراً، ولكن عمه أنساً هذا كان مؤمناً، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فيقول: إني سميت على اسم عمي هذا.
ويقول عن عمه: إنه لم يشهد بدراً، قال: فشق عليه أن غاب أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: لئن أراني الله مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، خاف أن يقول أكثر من هذا الشيء، وخاف أن يقول: سأكون شجاعاً وأبلي بلاءً حسناً، وخاف أن يقول: سأقاتل قتالاً عظيماً؛ لأنه خاف ألا يقاتل ويفر.
فلم يقل إلا: إن الله سيرى ما أصنع.
وفرق بين المؤمنين والمنافقين الذين يدعون أشياء لا يقدرون عليها، يهربون من القتال ثم يزعمون شجاعات فعلوها، وهم لم يصنعوا شيئاً، ويقولون: لو كنا نحن لفعلنا وفعلنا، وهم لن يفعلوا، ولو كانوا حاضرين لكانوا أول من يهرب.