يقول سبحانه وتعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] وقد هنا للتحقيق والتأكيد وليست للشك، كما في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ومعنى: ((قد يعلم الله المعوقين)) أي: قد علم الله يقيناً ما يقول هؤلاء المعوقون.
وكلمة المعوق مأخوذة من التعويق، وعوق بمعنى: صد عن الشيء، أي: منعه.
فهؤلاء المعوقون المانعون للمؤمنين من القتال، الصادون لهم عن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، الذين يتعللون بالأعذار فيقولون للمؤمنين: لا تقاتلوا فإنكم متعبون أو مرضى، أو إن أبناءكم ونساءكم يحتاجون إليكم فلو رجعتم إليهم كان أحسن لكم، فيعوقون المؤمنين ويخوفونهم، وهذا فعل الشيطان.
فالشيطان يقف للإنسان في مواطن، فيأتي المؤمن عند دخوله في دين الله سبحانه فيقول له: أتدع دينك ودين آبائك وتدخل في هذا؟ فلأجل أن يصده يذكره بآبائه، فإذا عصى المؤمن الشيطان ودخل في دين الله سبحانه، فإنه يأتيه عن طريق الهجرة فيقول له: أتهاجر وتترك أرضك وديارك وتكون في أرض الغربة والفتنة؟ والمؤمن يعصي الشيطان ويهاجر إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فيأتيه عند الجهاد فيقول: أتجاهد فتقتل ويضيع أولادك ومالك وتترك كذا وكذا؟ فيعصيه المؤمن ويطيع الله سبحانه تبارك وتعالى.
والمنافق مثل الشيطان فهو أسوته وقدوته، فهو يفعل كفعل الشيطان، فيعوق المؤمن عن الخير، يقول تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] أي: المعترضين لكم ليصدوكم عن سبيل الله سبحانه.
وقوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] أي: إلينا، وتعالوا أو عودوا معنا أين ستذهبون؟ قال سبحانه: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] فهؤلاء من المنافقين.
والمنافقون المعوقون لهم صور كثيرة، فالواحد منهم يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال، فيدعو من معه ويقول لهم: تعالوا للقتال، ثم يذهب ويتولى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في يوم أحد، وخذل النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ ثلث الجيش وهرب ورجع بهم إلى المدينة.
كذلك في يوم الخندق، فإن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى منزله بعذر من الأعذار ليفعل شيئاً، فترك السيوف والرماح ورجع ليأخذ حاجة من المدينة ثم بعد ذلك يرجع للنبي صلى الله عليه وسلم، فوجد واحداً من هؤلاء المنافقين جالساً يأكل ويشرب ويلهو، وقال له: هلم إلي، أي: تعال كل معنا واترك القتال وابعد عن هؤلاء.
قال ابن زيد: هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه رغيف وشواء ونبيذ، أي: يأكل لحماً ورغيفاً ويشرب خمراً، فقال له: أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إليَّ، فقد تبع لك ولأصحابك، والذي يحلف به لا يستقل بها محمد أبداً.
ومعنى فقد تبع أي: فقد أحيط، يعني: أنهم سيهلكون وسيضيعون فإن الكفار قد أحاطوا بهم، فلا يفعلون شيئاً في القتال.
فقال له المؤمن التقي: كذبت، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، فقبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم نزلت الآية تفضح هذا وأمثاله، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] أي: أقبلوا إلينا.
وقوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} [الأحزاب:18] أي: لا يأتون القتال {إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] القليل هم الذي يأتون القتال، من الخوف والرعب، ولأجل السمعة والرياء، وهؤلاء المنافقون إذا حضروا القتال لم يقاتلوا إلا قليلاً.
إذا فروا إلى المدينة يقومون يذكرون للصحابة نحن فعلنا وفعلنا، ولو لم نكن في المدينة لضاعت بيوتكم، وهم يكذبون في ذلك.