ثابت بن قيس بن شماس كان يلقب بخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الرجل الفاضل من الأنصار، ولما أنزل الله عز وجل سورة الحجرات وفيها نهي المؤمنين عن رفع الأصوات على النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، وكان الرجل جهوري الصوت، فظن أن الآية نزلت فيه وأنه هو الذي حبط عمله، فحبس نفسه في بيته، وظل يبكي ويقول: أنا أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم، فأُخْبِرَ أن الرجل حبس نفسه في البيت لأنه يظن أن هذه الآية نزلت فيه وأنه حبط عمله، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس من أهلها، وكان بعد ذلك لا يتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا همساً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
هذا الرجل كان خطيباً بارعاً، وكان عادة العرب أنهم يأتون للنبي صلى الله عليه وسلم وفوداً ومعهم الشعراء والخطباء لإظهار نوع من التحدي، فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أينا أفضل في الخطابة أو الشعر، نحن أم أنت؟ فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يدخل معهم في ذلك ولا يرد عليهم، ولكن كان يأمر ثابت بن قيس بن شماس فيتكلم فيبهرهم بخطبته رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويأمر أحد الشعراء كـ حسان أو غيره فيغلبهم بما يقول، أما النبي صلى الله عليه وسلم فما كان له أن يتكلم في مثل هذا أبداً.
الغرض أن ثابت بن قيس بن شماس جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يستشفع في رجل من اليهود، لأنه عمل له جميلاً في الجاهلية فلا يريد أن يُقتل هذا اليهودي، فالنبي صلى الله عليه وسلم طيب خاطره بذلك، فـ ثابت بن قيس بن شماس استوهب منهم عبد الرحمن بن الزبير كان صبياً وأسلم، ورجلاً كبيراً اسمه رفاعة بن سموءل القرظي وهبه النبي صلى الله عليه وسلم لـ أم المنذر سلمى بنت قيس، ووهب لـ ثابت بن قيس رجلاً آخر وهو ابن باطا وكانت له عنده يد، فقال له: قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدك التي لك عندي.
فلما سمع ابن باطا هذا الكلام فرح فرحاً شديداً لأنه لم يقتل، فقال اليهودي: ذلك يفعل الكريم بالكريم، يعني أنا عملت لك جميلاً في يوم من الأيام وأنت عملت في هذا اليوم، فهذا فعل الكرماء، وهو رد الجميل بالجميل، فيا ترى ما الذي كان عمله هذا الرجل معه؟ كان في الجاهلية قد أسر ثابت بن قيس بن شماس وكاد يقتله، ثم منَّ عليه بالحياة فجزَّ ناصيته وتركه فلم يقتله، فلذلك طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمنَّ عليه بذلك، فتركه له النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولكن الرجل اليهودي قال لـ ثابت: كيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل؟ أي: أنهم مأسورون وسيبقون عبيداً، فذهب ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشفع له في عياله وزوجته، وكان عياله قد أسلموا أما هو فلم يسلم، فهو كان اسمه الزبير بن باطا، وابنه هو عبد الرحمن بن الزبير بن باطا، وهو مسلم.
فشفع ثابت بن قيس أن يُرد عليه ماله فأعطاه ماله، وبعد ذلك قال: ما فعل ابن أبي الحقيق الذي كان وجهه كأنه مرآة صينية؟ فقال: قتل، قال: فما فعل المجلسان؟ يعني الكبار من بني قريظة؟ أي: بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة.
قال: قتلوا، قال: فما فعلت الفئتان؟ قال: قتلتا.
قال: برئت ذمتك، فألحقني بهم، فأبى ثابت بن قيس بن شماس أن يقتله، فقام غيره من المسلمين فقتله، لأنه يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي حق ومع ذلك لم يسلم ويريد أن يلحق بأصحابه إلى النار، لعنة الله على الظالمين، فقتل كما قتل الباقون.
قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً واحداً، وكانت غزوة الخندق فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.