وقبل نصر الله للمؤمنين حصل شيء من المناوشات، فالكفار ضاق بهم الأمر، فأخذوا يبحثون عن أضيق مكان في الخندق من أجل أن يعبروا إلى المسلمين من خلال هذا المكان، ففوارس قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب الفهري وكانوا من فرسان قريش وشجعانهم.
فأقبلوا حتى وقفوا على الخندق يبحثون عن مكان من أجل أن يعبروا إلى المسلمين، وأيضاً فإن فيهم شجاعة، حيث إنهم أربعة أو خمسة ويريدون أن يذهبوا لثلاثة آلاف رجل، فكانت شجاعتهم منقطعة النظير، من أجل أن نعرف أن المسلمين لم يجاهدوا أناساً ضعفاء أو أوباشاً لا يعرفون القتال، هؤلاء أناس أقوياء جداً وفي غاية الشجاعة والجرأة، بدليل أن أربعة يريدون أن يتعدوا الخندق من أجل أن يقاتلوا من وراء الخندق.
وتوجهوا إلى مكان ضيق من الخندق، فضربوا خيولهم فاقتحمت بهم الخندق.
أي: قفزت حتى وصلوا إلى المسلمين وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين جبل سلع الذي كان عنده المسلمون، فخرج إليهم علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما خرج علي رضي الله عنه أقبلت الفرسان نحوه ومعه مجموعة من المسلمين.
وعمرو بن عبد ود هذا كان في يوم بدر قد أثبتته الجراحة فلم يقاتل في يوم أحد بعد ذلك، وفي يوم الخندق أراد أن يري الناس شجاعته وأنه هو الرجل العظيم الشجاع الجريء، فلما وقف نادى في المسلمين: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى.
وهنالك فرق كبير في السن بين علي بن أبي طالب وبين هذا الرجل، فقال له: يا عمرو! إنك عاهدت الله فيما بلغنا عنك أنك لا تدعى إلى إحدى خصلتين أو خلتين إلا أخذت إحداهما، أي الأفضل منهما قال: نعم.
فـ علي بن أبي طالب قبل أن يقاتله يدعوه للإسلام لأنه عاهد الله على ذلك، فقال له: يا عمرو بن عبد ود! إني أدعوك إلى الله وإلى الإسلام، فقال: لا حاجة لي بذلك، أي: لا أريد هذا الشيء، قال: فأدعوك إلى المبارزة فإنك على باب الموت، فقال الرجل: يا ابن أخي! والله ما أحب أن أقتلك! فهو مستعظم لنفسه أنه من كبار المشركين وعلي بن أبي طالب مثل ابنه الصغير، ففي ظنه أن علياً لا يقدر عليه، فقال لـ علي: لا أحب أن أقتلك، لأننا أقرباء وأنت من قريش فلا أريد أن أقتلك، فهل هناك أحد آخر غيرك من أجل أن أقتله فثقته بنفسه أنه سيقتل علياً ويقتل من معه.
فقال علي بن أبي طالب أنا والله أحب أن أقتلك! فظهرت شجاعة علي رضي الله عنه كأنه يحمسه ويقول له: تعال إذاً قاتلني، فحمي عمرو بن عبد ود ونزل عن فرسه فعقره، من أجل إثبات الشجاعة والقوة في أنه ينزل عن فرسه، بل ويقتله من أجل ألا يقتله أحد ومن أجل أن يريهم أنه يقاتل على رجليه، وأقبل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتنازلا وتجاولا وثار النقع -أي: الغبار- بينهما حتى حال دونهما الناس فلا يستطيعون أن ينظروا شيئاً لأن الغبار حولهما، فلما انجلى النقع إذا بـ علي على صدره وهو يذبحه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما رأى أصحابه أن علياً قتل صاحبهم فروا منهزمين وهم من أشجع الكفار وقال علي رضي الله تبارك وتعالى شعراً جميلاً عن هذا الإنسان الكافر: نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت رب محمد بصواب نازلته فتركته متجدلاً كالجذع بين دكادك وروابي وعففت عن أثوابه ولو انني كنت المقطر بزني أثوابي لا تحسبن الله خاذل دينه ونبيه يا معشر الأحزاب هذا علي رضي الله عنه يقول: أنا قتلته، وأنا دافعت عن دين النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدافع عن الحجارة، وأنا دعوته إلى الله فأبى أن يسلم، وعففت عن أثوابه عندما قتلته، ولو أنني كنت المقتول لسلبني أثوابي وتركني عرياناً على الأرض.
فهذا شرف المؤمنين في قتالهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقال حسان بن ثابت لما رأى عكرمة بن أبي جهل وهو يفر: فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل حسان بن ثابت يشنع به لما هرب وهو ابن أبي جهل الذي كان سيد قريش فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل ووليت تعدو كعدو الظليم ما أن يجور عن المعدل ولم تلو ظهرك مستأنساً كأن قفاك قفا فرعل أي: أن قفاه مثل قفا الضبع، فهذا من حسان وفيه قصة طويلة.