حكم سجود التلاوة

قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة:15] آية من آيات السجدة في كتاب الله سبحانه، وعدد آيات السجود في كتاب الله عز وجل خمس عشرة سجدة، فتوجد خمس عشرة آية في القرآن فيها السجود، وبعضها بصيغة الأمر، وهي في ثلاثة مواضع من كتاب الله سبحانه: في قوله سبحانه في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77].

وكذلك في خاتمة سورة النجم: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62].

وكذلك في سورة العلق في آخرها أمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19].

وباقي الآيات فيها الإخبار عن السجود فالعلماء يقولون: هذه الآيات الخمس عشرة التي في كتاب الله عز وجل يستحب السجود عند قراءتها سواء في الصلاة أو في غير الصلاة، وقد قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم وسجد فيها.

ومن الإخبار بالسجود المأخوذ من الآيات ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومن الآثار عن الصحابة أخذ جمهور العلماء أن السجود ليس فرضاً واجباً عند سماع هذه الآيات أو عند تلاوتها، وإنما هو مستحب متأكد الاستحباب، فهي من عزائم السجود، أي: من العزائم التي يعزم على الإنسان فيلزم بها، ولكن ليس إلزام الوجوب، وذهب الأحناف إلى أنه يجب السجود عند هذه الآيات عند سماعها أو عند تلاوتها.

والجمهور أخذوا بأن الآيات نفسها التي ذكر فيها السجود فيها ثلاث آيات بصيغة الأمر التي في الحج وفي النجم وفي العلق، وهذه الثلاث اختلف العلماء هل يجب السجود لها أو لا يجب؟ قالوا: فعلى ذلك باقي الآيات التي بصيغة الإخبار هي أولى بأن لا يلزم السجود فيها.

والإمام البخاري في صحيحه قال: باب: من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود.

وقيل لـ عمران بن حصين: الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها، قال عمران رضي الله عنه - وهو صحابي فاضل-: أرأيت لو قعد لها؟ كأنه لا يوجبه عليه، يعني: أن السائل يقول: لو أن واحداً سمع السجدة ولم يأت من أجل أن يستمع القرآن، وإنما جاء لحاجة، فهل يلزمه أنه يسجد لما سمع التالي يقرأ آية السجود، فـ عمران بن حصين رضي الله عنه قال: أرأيت لو قعد لها؟ يعني: هل تظن أنه لو قعد لها كان يجب عليه السجود؟ فكأنه يرى أنه لا يجب السجود عند تلاوة هذه الآيات، إنما هو مستحب.

كذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: ما لهذا غدونا، فقد جاء في الأثر عند عبد الرزاق عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: مر سلمان على قوم قعود فقرءوا السجدة فسجدوا، فقيل له، فقال: ليس لهذا غدونا، والمعنى: أنهم قاعدين يقرءون القرآن فمروا بسجدة فسجدوا، لكن سلمان يقول: نحن لسنا نقرأ معهم ولا نسمع معهم، بل نحن نمشي لحاجة، فهم سجدوا، ونحن لا يلزمنا أن نسجد؛ لأننا لم نقعد معهم للسجود أو للتلاوة، إنما نحن مارون.

والغرض من هذا: بيان أن الصحابة رضوان الله عليهم ذكروا هذا السجود، وذهبوا إلى أنه ليس فرضاً واجباً كالذي يجب على الإنسان من ركوع وسجود في الصلاة، فالسجود للتلاوة يتأكد استحبابه، ولكن لا يصل إلى الفرضية.

قال عثمان رضي الله عنه: إنما السجدة على من استمعها، هذا ذكره الإمام البخاري.

وجاء عن عثمان رضي الله عنه أيضاً في مصنف عبد الرزاق: أنه مر بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إنما السجود على من استمع، ثم مضى ولم يسجد، وكأن عثمان رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين مر بالمسجد والقاص يذكر الناس، ولما نظر عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قرأ آية فيها السجدة من أجل أن يسجد هو ومن معه ومن أجل أن عثمان أيضاً يسجد معهم، فلم يسجد معهم رضي الله عنه، ومر وانصرف، وقال عثمان رضي الله عنه: إنما السجود على من استمع، يعني: أن القاعد معك الذي يسمع هو الذي عليه أن يسجد، لكن أنا مار ولست بجالس معكم.

ففيه أن سيدنا عثمان رضي الله عنه لم ير أنه يلزمه أن يسجد حتى ولو استمع لمن يقرأ السجدة، طالما أنه لم يجلس للسماع، وكذلك رأى سلمان الفارسي وعمران بن حصين.

فالغرض: أنهم لم يروا وجوب السجود، فالراجح أن سجود التلاوة مستحب متأكد الاستحباب وليس فرضاً واجباً.

ومن أقوى الأدلة على عدم الوجوب كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله: ما رواه الإمام البخاري عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي عما حضر ربيعة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، أي: لما جاء عمر رضي الله عنه على آية فيها سجدة نزل وسجد، وسجد الناس وهم في أثناء الخطبة، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، يعني: قرأ آية السجود في سورة النحل مرةً ثانيةً وهو رضي الله عنه على المنبر، قال: حتى إذا جاء السجدة قال: (يا أيها الناس! إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)، ولم يسجد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.

إذاً: سواء كان في خطبة أو في غيرها يجوز أن الإمام أو القارئ ينزل إذا قرأ آية فيها سجدة ويسجد ويسجد الناس معه، ويجوز أنه يتم حديثه ويكمل ولا يجب عليه السجود، وهذا فعل عمر.

وقد يقال: إن هذا فعل عمر، وهو فعل صحابي واحد، وقول الصحابي كما يقول البعض: ليس حجة، ولكن قول عمر رضي الله عنه لا يقال فيه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع الخلفاء الراشدين المهديين، فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ) فـ عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه من هؤلاء.

ويقال أيضاً: إن عمر كان يخطب، وكان الحاضرون يسمعون خطبة عمر، وكلهم من الصحابة ومن التابعين، ولم ينكر أحد على عمر رضي الله عنه فصار إجماعاً.

إذاً: هنا إجماع من الحضور على موافقة عمر رضي الله عنه، ولو خالف أحد عمر في ذلك لرد عليه وقال له: يجب عليك أن تنزل وأن تسجد، ولكن لم يقل له أحد ذلك، فدل على أن فعل عمر كان بموافقة جميع من في المسجد، وهذا من أقوى ما يكون من الإجماع: أن يكون صحابي موجوداً في مجمع يصعب أن يقال: إنه لم يحضره صحابة، بل كانوا يحضرون مع عمر رضي الله عنه خطبة الجمعة، وهذا شاع عن عمر رضي الله عنه، فلو فرضنا أن البعض كان بعيداً عن عمر فلا بد أن يسمع ممن حضر من عمر ذلك، فلو كان هناك منكر لأنكر عليه ولم يسكت عن ذلك، فعلى هذا فهذا إجماع سكوتي من أقوى الإجماعات، فإنهم حضروا لـ عمر وسكتوا عما قال، فدل هذا على الموافقة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015