قال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6] (ذلك) اسم إشارة للبعيد، والمقصود منه هنا التعظيم والإشارة للبعيد، فإذا أراد الإنسان أن يتكلم إما أن يقصد البعيد في مكان، وإما أن يقصد التعظيم، فقد يتكلم الإنسان عن شخص قريب منه فيقول: هذا، فإذا أراد تعظيمه يقول: ذلك، وهو قريب منه، فالله عز وجل يعبر عن نفسه سبحانه بـ (ذلك) لأنه الخالق العظيم سبحانه تبارك وتعالىز و (عالم الغيب والشهادة) قدم الغيب على الشهادة لأن الغيب خفي، فلا يدري الإنسان عن الغيب شيئاً إلا بما يعلمه الله سبحانه تبارك وتعالى، فـ (ذلك عالم الغيب) أي: ما غاب عنكم من أشياء غيبها الله سبحانه تبارك وتعالى فما غيبه الإنسان في ضميره وأخفاه فإن الله يعلمه سبحانه، يعلم ما سيفعله الإنسان ولم ينوه بعد فعلم الله علم غيب، يعلم ما كان في الماضي، وما سيكون في المستقبل، بل وما لم يكن، الشيء الذي لم يوجد يعلم أن لو كان كيف سيكون سبحانه تبارك وتعالى، فيعلم كل شيء، يعلم ما أسره الإنسان لغيره، وما أخفى من السر وغيبه في نفسه ولم يقله لغيره، وما هو أخفى من ذلك مما لم يعلمه الإنسان بعد، وسيعلمه وسيفعله بعد ذلك، فأنت لا تعلم ما الذي ستكسبه في الغد والله أعلم بذلك، وأنت لا تعلم متى ستموت؟ وأين تموت؟ وكيف تموت؟ والله يعلم ذلك سبحانه، فهو عالم الغيب والشهادة سبحانه تبارك وتعالى.
والشهادة: هي الشيء المشاهد، ما يشاهده الإنسان أمامه، والله يعلمه ويراه سبحانه تبارك وتعالى، وما خفي عن الخلق فالله عز وجل يعلمه، فهو عالم الغيب والشهادة (العزيز الرحيم)، هذا الاسم العظيم العزيز مناسب لما قبله، وكذلك الرحيم، فعالم الغيب لا يخفى عليه شيء مهما أراد الإنسان أن يخفيه ويغالب في إخفائه، فالله مطلع عليه لا يغلبه أحد أبداً، فالله هو الغالب الذي لا يغلب، والعزيز القاهر فوق عباده سبحانه الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن، ولابد أن يكون بأمر الله سبحانه، وهو العزيز الذي يقضي الشيء ولابد أن يكون على ما قضاه الله، فمستحيل أن يتخلف الشيء عما أراده الله عز وجل له، لا شيء يغالب الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا شيء يمتنع على الله سبحانه.
الله عز وجل رءوف ولطيف بعباده، فإذا ذكر ما يفيض القوة والشدة ذكر ما يفيض رحمته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى، فهو عالم الغيب والشهادة، اطلع على غيب كل مخلوق، واطلع على ما يفعله ويشاهده غيره سبحانه تبارك وتعالى، فيحاسب كل إنسان على ما يفعله، والله هو العزيز الغالب يحاسب الكافر والظالم فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، والله هو الرحيم يحاسب المؤمنين فيسترهم سبحانه تبارك وتعالى ويغفر لهم، ويتكرم عليهم بفضله ورحمته سبحانه، فهو عزيز رحيم سبحانه تبارك وتعالى، والرحيم صفة لله عز وجل فيها رحمته، وهو صيغة مبالغة، فهو الرحمن الرحيم، الرحمن: ذو الرحمة العظيمة الجليلة، والرحيم: ذو الرحمة العظيمة الجليلة، فالرحمن يختص بالرحمة العامة العظيمة من الله عز وجل لكل خلقه، فيدخل فيها المؤمن والكافر بأن يعطيه ويرزقه ويتفضل سبحانه تبارك وتعالى على خلقه بالهداية ويمن وينزل عليهم كتابه، ويرسل إليهم رسولاً فيبين للإنسان الخير والشر، ويبين للجميع سبحانه تبارك وتعالى، فهو الرحمن سبحانه، ولما طلب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من ربه قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126] أهل البيت {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة:126] فيرزق الله عز وجل الجميع، فهذا من رحمته سبحانه، فلم يخلق الخلق ليأتوا إلى الدنيا فلا يجدوا ما يأكلون، وإنما خلق هذا وهذا.
إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام طلب الرحمة للمؤمنين، وطلب الرزق لهم، فالله عز وجل أخبر أنه يرزق الجميع مؤمنين وكافرين، وهذا مقتضى رحمته سبحانه تبارك وتعالى، يرزق جميع خلقه، ويبين لجميع خلقه سبحانه تبارك وتعالى رحمته.
وهو الرحيم برحمة خاصة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، فإن رحم الجميع في الدنيا بأن بين ورزق وأعطى لكن في الآخرة لا تكون رحمته إلا للمؤمنين {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] سبحانه تبارك وتعالى، فيرحمهم ويدخلهم الجنة، وأما الكافر فإن أعطاه الله رحمة في الدنيا فيوم القيامة مصيره إلى جهنم؛ لأنه لم يرع ذلك، ولم يقدر ربه سبحانه حق قدره، ولم يعبد ربه، بل أشرك بالله مع ما أعطاه فاستحق أن تكون نهايته في نار جهنم والعياذ بالله قال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6].