قوله سبحانه: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم:58] أي: مما طلبوا من الآيات، والله أعلم سبحانه تبارك وتعالى يعلم، بطبيعة هؤلاء، فكم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم من آية، فقالوا: نريد آية ونؤمن بما أتيتنا به من هذا القرآن، وبأنك رسول رب العالمين، على أن تكون هذه الآية كعصا موسى، أو تحيي الموتى كما كان يصنع عيسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد جاءهم بآيات عظيمة صلوات الله وسلامه عليه، ولكن لم تكن هذه الآيات آيات عامة؛ لأنه لو جاء بآية عامة يراها الجميع أمامهم فكذبوا لأتاهم العذاب من عند رب العالمين.
فكان يطلع على الآية من الآيات جموع منهم تتراوح بين العشرة والمائة والألف، ولكن لا يطلع عليها جميعهم في وقت واحد، وهذا من رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى بهذه الأمة، فمن آياته التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه: أنه شُق القمر بدعائه صلى الله عليه وسلم وبإشارته إليه، فرأى ذلك عشرات من أهل مكة، كما رآها مسافرون كثيرون ورجعوا وأخبروا بذلك ولم يؤمنوا، ولو كانت هذه آية عامة يتحدى بها النبي صلى الله عليه وسلم الجميع ثم كذبوا بعدها؛ لأهلكهم الله سبحانه، ولكن جعلها بالليل يراها البعض ولا يراها الجميع حتى لا يهلكهم جميعهم سبحانه تبارك وتعالى بتكذيبهم.
ومن الآيات ما رآه المؤمنون من النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إذ وضع في البئر سهمه صلوات الله وسلامه عليه، ودعا ربه سبحانه؛ فجاشت البئر بالماء، وشرب منها الجيش كله! وفي غزوة أخرى من غزواته صلى الله عليه وسلم أُتي بكوز ماء لا يكفي لوضوئه صلى الله عليه وسلم فوضع يده في هذا الكوز، فنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فشرب الجيش كله مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسقوا إبلهم، وتزودوا بهذا الماء الطيب الطاهر في سفرهم! وغيرها من الآيات رأوها من النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومع أنها كانت آيات، إلا أن الله لم يعدها من الآيات في قوله تعالى: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم:58]؛ لأن المراد بالآية هنا هي الآية العامة التي طلبوها كما طلب الحواريون من المسيح عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فهم يريدون أن يروا آية عامة، لكن الله منعهم إياها، وجعل القرآن الكريم هو الآية العظمى، أما غيره من الآيات فكان يراها البعض ولا يراها الجميع.
ثم يخبر سبحانه بما سيكون منهم لو أعطوا آية عامة وهو أعلم فيقول سبحانه: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58]، فالله رحيم بعباده سبحانه تبارك وتعالى، وهو يعلم أنه لو جاءهم بآية كما طلبوا حيث قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:90 - 92]؛ لكذبوا بها، ولم يؤمنوا، فتكون النتيجة أن يهلكهم الله سبحانه بسبب تكذيبهم.
والمبطلون في قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58] جمع مبطلٍ والمبطل: هو المتبع للباطل، فيقال: هذا مبطل: كأنه صانع للباطل ومتبع له.
كأنهم إذا جاءهم بالآية التي طلبوها سيكذبونه، ويدعون أن ما جاء به سحر كما قالوا في انشقاق القمر، ولذلك الله لم يأتهم بما طلبوا.