قال تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم:51]، قوله تعالى هنا: ((رِيحًا)) لا توجد فيها إلا قراءة واحدة فقط وهي: (ريحاً) بالإفراد، و (الرياح) تأتي بالإفراد وبالجمع، و (الريح) هنا: مفردة.
وقوله: ((رأوه)) الضمير هنا يجوز أن يكون راجعاً إلى الريح، وكأن الريح التي تسير التراب تختلط به فترى الريح كأن لونها أصفر من التراب، فيكون المعنى: فرأوا الريح، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الأثر، فيكون المعنى: رأوا الأثر من هذه الريح الاصفرار، فإذا بالنبات الأخضر يموت ويذبل ويصبح أصفر بعد ذلك، {فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} [الروم:51]، ويحتمل أن يرجع إلى السحاب بمعنى: أنهم يعرفون أن السحابة السوداء يوجد فيها الرياح وتنزل المطر، أما السحابة الصفراء فإنها لا تنزل شيئاً، فقوله تعالى: (فرأوه) يحتمل أن يكون عائداً إلى هذه الرياح، أو إلى هذه السحابات والأثر الذي فيها أو إلى الزروع وأثر الاصفرار الذي فيها، فإذا رأوا رياحاً صفراء، أو رأوا سحابات صفراء، أو رأوا الزرع أصفر؛ يئسوا وقنطوا وحزنوا على ذلك، وظلوا من بعده يكفرون.
وعجيب جداً حال الإنسان! إذا وجد الرزق والماء والطعام، ووجد من فضل الله ورحمته عليه في الدنيا، فإنه يفخر به، ويرتفع على غيره، ويكفر النعمة ولا يشكر الله سبحانه وتعالى، فإذا ضيق الله عز وجل عليه كفر نعمة الله عليه، وبدأ يشتكي من الله، فينسى أنه أعطاه قبل ذلك، وأنه سيعطيه بعد ذلك، ولكن يضيق سبحانه وتعالى على العبد حتى يلجئه إلى ربه، وحتى يجأر إليه، ويعرف النعم.
ولولا أن الإنسان يصاب بشيء من الضيق، لما كان يعرف فضل رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وانظر لو أن إنساناً في نجاح دائم، لبغى وكفر وشعر أنه لا يحتاج إلى أحد، لكن حين يأتي عليه وقت فيه ضيق، ووقت يرسب فيه، فإنه سيشعر أنه محتاج إلى الله سبحانه وتعالى، ولو أن إنساناً في صحة دائمة، لبغى وكفر وشعر أنه لا يحتاج إلى أحد أيضاً، لكن حين يأتي على الإنسان شيء من المرض فإنه يرجع إلى ربه سبحانه ويشكر هذه النعمة، لذلك يقولون: لا يعرف النعمة إلا فاقدها.
فالذي يفقد النعمة يعرف نعمة رب العالمين سبحانه، فمن يتكلم لا يعرف نعمة الله عليه في الكلام إلا حين يفقد صوته، ومنهم من يعرف نعمة الصحة، فإذا أصابه المرض عرف أن هذا المرض شيء حجبه الله عز وجل عنه فترات ولم يشكر ربه سبحانه وتعالى على ذلك، فحين ابتلاه عرف هذا الشيء، والشيء يظهر حسنه ضده، ولذلك قالوا: الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء فلولا السواد ما عرفت فضل البياض، ولولا المرض ما عرفت فضل الصحة وهكذا، فرحمة رب العالمين عظيمة، يبتلي العبد ويختبره حتى يرجع إليه، فيعطيه الله سبحانه وتعالى، فشكرك لنعمة الله أعظم عند الله من النعمة نفسها التي أنزلها عليك.
فالنعمة من الله، والشكر نعمة أخرى من الله أيضاً، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما أنعم الله على عبد من نعمة فشكره عليها، إلا كان شكره عند الله أحب إلى الله من النعمة نفسها)، فالنعمة التي أعطاك الله منه نعمة، والشكر نعمة من الله، هو الذي تفضل عليك بذلك، وأحب النعمتين إلى الله الشكر، فعود نفسك على شكر الله سبحانه، واحمد لله في السراء والضراء، فقد (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته النعمة قال: الحمد لله رب العالمين)، وإذا حدث شيء وبلاء بالمسلمين قال: (الحمد لله على كل حال)، فحاله دائماً الحمد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الحامدين الشاكرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.