قال الله سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33] المس: أقل من اللمس، أما الإذاقة فمأخوذة من التذوق الذي يكون باللسان، فكأن التعبير بالمس والذوق يدل على الشيء القليل؛ لأن الدنيا بمصائبها مهما زادت فلن تساوي بجوار عذاب رب العالمين في النار شيئاً، وإنما هي كالمس وكالإذاقة في يسره وقلته.
ولك أن تقارن بين الذوق وبين بلع الطعام، فالذوق بالنسبة للصائم لا يفطر بعكس الأكل الذي يفطره، وهنا يقول: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ} [الروم:33]، فإذا ابتلي الإنسان بشيء يسير من عذاب رب العالمين تاب ورجع إلى ربه وأعطى بذلك العهود والمواثيق كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:33] يعني: وحدوا الله سبحانه وتعالى وأنابوا ورجعوا إليه.
قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} [الروم:33]، وقد عبر بالذوق هنا كأن الرحمة التي في الدنيا لا تساوي شيئاً بجوار رحمة رب العالمين يوم القيامة، فقد خلق الله الرحمة وقسمها إلى مائة جزء، فجعل في الدنيا رحمة واحدة، وجعل الباقي ليوم القيامة، فرحمة الله عظيمة واسعة سبحانه وتعالى.
ثم إذا أذاق الإنسان منه رحمة، بأن أعطاه قليلاً من المال أو الغنى بطر به وأشرك وكفر، فلا يكون لأمثال هذا قيمة يوم القيامة، ولك أن تنظر إلى آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وخروجاً من النار، وهذا الرجل من عصاة الموحدين، الذين ماتوا على لا إله إلا الله، واستحق بسبب كثرة ذنوبه أن يدخل النار، ثم في النهاية يقول الله عز وجل له: تمن، فيتمنى، ثم يذكره الله عز وجل، فيتمنى ثم يذكره الله إلى أن يعجز عن التمني، فإذا بالله سبحانه وتعالى يقول: أما ترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيفرح العبد بذلك، فيقول الله عز وجل: لك مثله ومثله ومثله، وعشرة أمثاله، فيكون أقل أهل الجنة نصيباً، فلا تساوي الدنيا بأسرها أقل نصيب لأقل إنسان في الجنة! وقد جاء في الحديث أن هذا الإنسان يقول عندما يتجاوز الصراط (لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين).
إذاً: فمهما كان نعيم أهل الدنيا واسعاً فإنه لا يقارن بنعيم أهل الجنة عند رب العالمين سبحانه.
قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} [الروم:33] أي: شيئاً من رحمة رب العالمين، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33] أي: يرجعون للكفر مرة أخرى، وهو كفر النعمة والجحود، فالإنسان بطبعه يطغى إذا جاءه المال، فينسى ربه سبحانه وتعالى، ويعترض عليه سبحانه ثم يستكبر على الخلق؛ لأن الله أعطاه قليلاً من المال فظن أن لا أحد فوقه.