قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت:58] يطمئن الله عز وجل المؤمنين، بأن الدنيا زائلة، فمهما طالت، ومهما عُذب المؤمن فيها فإنها ستزول ولن تبقى.
ومعنى ((لنبوِّئنهم)) أي: لننزلنهم منزلاً في أعالي الجنات، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر ((لنبوينهم))، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: ((لنثوينهم)) من الثوى بمعنى: الإقامة، أي: لندخلنهم مكاناً يقيمون فيه ولا يخرجون منه، ((من الجنة غرفاً))، الغرف هي الأماكن العالية الرفيعة الفخمة، فالله عز وجل جهز هذه الغرف للذين آمنوا وعملوا الصالحات، فهم لم يقولوا: آمنا، بألسنتهم وكفرت قلوبهم وفسقت أعمالهم، لا؛ بل قالوا: (آمنا) بالقول، وصدق ذلك القلب والعمل، والغرف معناها: الجنات العظيمة العالية، وليس كما يتخيل الإنسان الغرفة التي في بيته، فهذه وإن سميت غرفة لكن هناك فرق كبير بين هذه وبين تلك، فقد قال سبحانه: {غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [العنكبوت:58].
وقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم)، فأهل الجنة الذين هم في أدنى الجنات وفي أوسط الجنات ينظرون إلى أهل الغرف الذين هم في أعالي الجنات، قال صلى الله عليه وسلم: (يتراءون) والترائي: هو النظر للشيء البعيد، مثلما تنظر إلى الكواكب التي في السماء.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق)، الغابر: أي: البعيد جداً، و (الدري): أي: المتلألئ في الأفق، قال: (من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)، أي: لتفاضل الدرجات، فبحسب عمل الإنسان يرفعه الله عز وجل درجات، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا في أعالي الجنات.
(قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟) أي: أن الغرف العالية ليست إلا للأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: (بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)، (بلى) يعني: ليس كما تقولون، ولكن هناك رجال مؤمنون سيبلغون ذلك، وهم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها)، أي: قصوراً عظيمة في الجنة، وصاحب هذه القصور يرى داخلها وهو خارجها، ويرى خارجها وهو داخلها، (ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام)، فالذي يريد أن يصل إلى هذه الغرف فليعلم أنها لمن أطاب الكلام)، أي: كان خلقه حسناً، وكلامه طيباً، ليس رديئاً ولا فاحشاً، ولا نماماً، ولا مغتاباً، بل هو صادق في كلامه ولا يخرج من فمه إلا الطيب.
(وأطعم الطعام) أطعم الفقير والمسكين، وابن السبيل، والجار، والضيف، وأطعم أهله، (وأدام الصيام) يعني: صام كثيراً، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال، فكأنما صام الدهر)، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بما يسهل علينا، فإذا أردت أن يكون أجرك كمن صام الدهر صم من كل شهر ثلاثة أيام، وصم الإثنين والخميس، ففيهما يرفع العمل إلى الله سبحانه وتعالى، وصم يوم عرفة، ويوم عاشوراء وهكذا، فالإنسان المؤمن يتحرى الأوقات الفاضلة، فيكثر فيها من الصيام بحسب ما يقدره الله عز وجل عليه.
قال: (وصلى بالليل والناس نيام)، فهو مع الناس حسن الخلق، وهو مع الله في صيام وقيام، وقيام الليل في البداية قد يكون صعباً على الإنسان، ولكن مع العادة يصير متعة للإنسان، كما قال الثوري رحمه الله: كابدنا قيام الليل عشرين سنة، واستمتعنا به عشرين سنة.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على عمل أهل الغرف العاليات، وأن يجعلنا منهم ومعهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.