قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا يكتب.
أما ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب فهذا لا يصح، ولا ينافي ذلك أنه كتب اسمه صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية عندما كتب علي رضي الله عنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بـ سهيل بن عمرو يعترض ويقول: لو كنا نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله.
فرفض علي رضي الله عنه أن يغير رسول الله عليه الصلاة والسلام فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منه القلم ومحا كلمة (رسول الله) وكتب مكانها (ابن عبد الله).
فهذه معجزة له صلى الله عليه وسلم لكونه لا يجيد قراءةً ولا كتابة، وهذه المرة عرف مكان كلمة (رسول الله) فشطبها وكتب (ابن عبد الله)، فهذه المرة الوحيدة التي كتب فيها.
والعلماء اختلفوا في ذلك: هل كتب بنفسه صلى الله عليه وسلم أو أمر غيره أن يكتب؟ ففي الحديث الذي في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً وأمره أن يمحو ذلك، فـ علي قال: والله لا أمحوه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها) أي: أين مكانها من الصحيفة، إذاً: حتى هذا الحين لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب، فأشار له إلى مكان كلمة (رسول الله) فمحاها بيده وكتب مكانها: ابن عبد الله.
وأكثر أهل العلم على أنه أمر غير علي رضي الله عنه أن يكتب ذلك.
وبعض أهل العلم ذكر أنه كتب بيده صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي كتب فيها صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه معجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ليس هناك أحد يكتب فجأة.
وقد خاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] فذكر شيئين: النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب.
ثم قال: ((بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ)) فاختلف المفسرون في عود الضمير (هو) فقال بعضهم: إنه عائد على القرآن، أي: القرآن آيات بينات.
وقال بعضهم: إنه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، أي: النبي صلى الله عليه وسلم آية من رب العالمين سبحانه وتعالى أن يكون نبياً أمياً لا يقرأ ولا يكتب ويأتي بهذا الإعجاز العظيم من عنده سبحانه.
فالذين قالوا: (بل هو) عائد على القرآن، قالوا: القرآن آيات بينات جليات واضحات من رب العالمين لا غموض ولا إشكال فيها، والذين أوتوا العلم هم الذين يفهمون ذلك ويحصلونه ويحفظونه في صدورهم.
إذاً: على هذا القول يكون القرآن هو الكتاب الوحيد الذي في الصدور، والتوراة والإنجيل وغيرها من كتب الله عز وجل التي نزلت لم ييسر حفظها لأحد، إنما كان يحفظها فقط الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما الناس فلم يكونوا يحفظونها؛ ولذلك حرفت هذه الكتب، وسهل بذلك تبديلها وتغييرها، وشرحها بغير لغتها، فإذا بدلها بغير لغتها حرف فيها ما يشاء.
أما القرآن فهو منضبط محفوظ في الصدور، يحفظه المسلمون من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى.
فالقرآن آيات محفوظة في الصدور ومكتوبة في الصحف، فالإنسان المؤمن يحفظ كتاب الله عز وجل كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
وعلى القول الآخر بأن المعنى: هو النبي صلى الله عليه وسلم، ففي قوله تعالى: (آيات) معنيان: الأول: وجدان أهل الكتاب اسم النبي صلى الله عليه وسلم وصفته في كتبهم، ثم يجدونها محققة في شخصه، فيكون ذلك دافعاً لهم على الإيمان به، فقد كان البعض منهم يأتي إليه ويختبر تحقق هذه الصفات فيه، فإذا تأكد أنه فعلاً النبي عليه الصلاة والسلام دخل في دين الله عز وجل.
ويكون المقصود بقوله تعالى: {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] أن من أهل الكتاب من عرفوها من كتبهم.
والقول الآخر: أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذو آيات بينات، أي: صاحب معجزات من عند رب العالمين أعظمها هذا القرآن العظيم، ومنها الآيات الأخرى مثل: انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه حتى يتوضأ ويشرب جيشه الذين معه، وقد تكرر ذلك مراراً، وغير ذلك من بركات ومعجزات جعلها الله عز وجل على يده، حتى يعرف أهل العلم ذلك ويستيقنون، وأما من يجحدون بذلك فهم الظالمون، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.