أمر الله تعالى بإقامة الصلاة

ثم قال له: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45]، أي: أقمها لنفسك فصل لله عز وجل بالليل طويلاً، وصل لله عز وجل بالنهار أيضاً، ثم أقمها للمؤمنين فائمر بالنداء لها، وصل بهم، وعلمهم أن يستقيموا فيها.

فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بأوامره وأفعاله، وبإنكاره على من يسيء منهم في صلاته وترغيبهم في الثواب فيها، وترهيبهم من التقصير فيها، فقام بذلك صلوات الله وسلامه عليه.

وبين له ربه سبحانه في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] أن هذه الصلاة عظيمة جداً، تنهى الذي يحسن فيها عن الفحشاء والمنكر، ولا شك أنها تنهى كل إنسان عن الفحشاء والمنكر كل بحسبه، فإنسان جاء ليصلي وانشغل عن هذه الصلاة بالتفكير في أشياء خارجها، فأقل ما فيها أنه وهو في صلاته لا يفعل المنكر ولا يفعل الفحشاء، فنهاه ما هو فيه عن أن يقترف آثاماً وذنوباً.

فإذا دخل الإنسان الذي يقع في المنكرات والمعاصي والفواحش في الصلاة فأقل ما فيها أن هذا الجزء من وقته ليس بفحشاء وليس بمنكر.

فالصلاة منعته من ذلك في ذهابه من بيته ومجيئه إلى بيت الله عز وجل وهو متوجه إلى الصلاة على الأقل، وإذ هو متذكر لله عز وجل في ذلك الحين.

أما الإنسان الذي يدخل في الصلاة بخشوع، وخضوع، وتواضع لله سبحانه، وحب لهذه الصلاة، وكان في كل أحواله مستشعراً الذل بين يدي الله عز وجل، وهو قائم يقرأ، وهو راكع منحن، وهو رافع، وهو ساجد لله سبحانه متواضعاً، وهو قاعد يستشعر أنه عبد ذليل بين يدي الرب الجليل سبحانه وتعالى، وفي قراءته يتدبر معانيها، ويطبق على نفسه ما هو فيها من أن المحسنين لهم الجنة فيرجو ذلك، وأن المسيئين لهم النار فيخاف من ذلك، ويسأل الله من رحمته، يتعوذ بالله من غضبه وعقابه، فهو في مناجاة مع الله عز وجل في صلاته، وإذا ركع عظم ربه سبحانه وتعالى وذكره، وإذا سجد دعا ربه وهو مستيقن بأن الله يستجيب دعاءه.

فإذا كانت الصلاة على هذا الوجه وخرج فيستحق أن يقال: إن هذه الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا يعقل أبداً أن يكون إنسان يصلي على هذه الصورة ثم يخرج من الصلاة ليزني مثلاً، أو يخرج ليسرق، أو ليقع في شهادة الزور، وقول الزور، وأكل حقوق الخلق.

فهذه الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وهو فيها متصل بالله عز وجل، فإذا خرج لم تنقطع صلته بربه سبحانه وتعالى.

ولذلك يقول العلماء في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45]، أن المراد: إدامتها والقيام بحقوقها.

وأخبر الله سبحانه بالحكم من رواء هذه الصلاة بأنها تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر؛ لما فيها من تلاوة القرآن واستماع الذكر الذي يشتمل على الموعظة.

والصلاة تشغل بدن المصلي إذا دخل فيها وخشع وأخبت لله سبحانه وذكر الله، وتذكر أنه واقف بين يديه فتذكر الموقف يوم القيامة.

الإنسان المؤمن يتفكر حال وقوفه في الصلاة أنه يقف بين يدي الله عز وجل اختياراً، أما يوم القيامة فالكل واقفون بين يدي الله رب العالمين ومجموعون ومحشورون إليه اضطراراً، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، وقال: {وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، ولا بد للسؤال من إجابة، ولن يستطيع الهرب أبداً، ولا من الموقف بين يدي الله عز وجل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.

فإذا وقف الإنسان في الصلاة في الدنيا تذكر الموقف يوم القيامة، وأن موقفه هذا يغني عن إطالة سؤال يوم القيامة، ويدفع عنه شر هذا اليوم الذي قال الله عنه: {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، شديد العبوس، شديداً فيما هو فيه من سؤال وموقف وعرق، وفيما هو فيه من تبكيت وحسرة.

فإذا خرج الإنسان من هذه الصلاة لم تزل عليه هذه الصلاة وصفتها وخشوعها إلى الصلاة التي تليها، ولا يزال هكذا حتى يستمتع بهذه الصلاة.

ولذلك جاء عن بعض السلف رضوان الله عليهم أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر، وقال: أما تدرون بين يدي من أقف؟ استشعر أنه واقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهذه منزلة عظيمة جداً ليس كل إنسان يصل إليها، ولكن على الأقل يستشعر الخوف في قلبه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يصلي صلاة مودع.

فإذا دخل في الصلاة قال في نفسه: يمكن أن تكون هذه آخر صلاة أصليها.

فإذا استشعر ذلك أحسن فيها أفضل الإحسان.

قال تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى} [العنكبوت:45]، أي: صاحبها المصلي، {عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فإذا انتهى من صلاته وقد أحسنها فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015