قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:16 - 21].
لما أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أنه أرسل نوحاً إلى قومه ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فلم يصدقوه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى بالطوفان: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ} [العنكبوت:14 - 15] أنجينا نوحاً، {وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15] المؤمنين الذين كانوا معه في السفينة، {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15] جعلنا هذه السفينة أو جعلنا هذه آية للعالمين.
قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [العنكبوت:16] نصب إبراهيم على أنه مفعول لقوله: {فَأَنجَيْنَاهُ} [العنكبوت:15]، والمعنى: أنجينا نوحاً وإبراهيم أيضاً أنجيناه، فكأنها معطوفة على المفعول والفعل الذي هو أنجى، أو أنه نصب بفعل مقدر هنا وتقديره: واذكر {إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [العنكبوت:16] أي: وقت أن قال لقومه ودعاهم إلى الله عز وجل، {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت:16]، ذكر نوحاً وهو الأب بعد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنه كان قد أرسل إلى بنيه وكانوا مؤمنين موحدين، وفيهم من يعصي الله سبحانه، فالله عز وجل أمره أن يدعوهم إلى طاعة الله، ويعلمهم ويرشدهم كما علمه الله سبحانه، لكن نوحاً عليه الصلاة والسلام هو أول الأنبياء الذين أرسلوا إلى قوم كفار قد أشركوا بالله عز وجل.
ولذلك جاء في الحديث: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد)، وقوم نوح هم أول قوم بدءوا الكفر والشرك بالله سبحانه وعبادة الأصنام والأوثان، فأرسل الله عز وجل إليهم نوحاً فدعاهم فكذبوه فأهلكهم الله عز وجل وأغرقهم.
وفي هذه السورة الله عز وجل يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأذى الذي أوذيتم به ليس شيئاً جديداً، أو ليس شيئاً محدثاً لم يحدث للذين من قبلكم، بل هذا شيء قد حدث للسابقين من قبلكم، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، فلست رسولاً بشيء جديد، بل كل الرسل أرسلوا بالتوحيد، وكل الرسل أوذوا في الله سبحانه، فهذا نوح أوذي ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو قومه إلى دين الله سبحانه، وكذلك أوذي إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكل الأنبياء من بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من ذريته من أبناء إسحاق، إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه فهو الوحيد من أبناء إسماعيل الذي صار نبياً ورسولاً، بل أفضل الرسل عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ) يذكره بما حدث لإبراهيم وهو الذي عاش في هذا المكان فترة، وقد كان عليه السلام في العراق ثم هاجر إلى الشام، ومن ثم أمره الله عز وجل أن يبني البيت فأتى بـ هاجر إلى الجزيرة، وأمره الله سبحانه بعدما شب ابنه إسماعيل أن يبني البيت هنالك وتركه ورجع إلى الشام، وكان يزروه في هذا المكان، فالعرب يعرفون إبراهيم جيداً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ولذا يقول هنا: اذكر إبراهيم {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت:16]، فأمرهم بعبادة الله، وقد أوذي أذى شديداً عليه الصلاة والسلام، دعا قومه في العراق إلى عبادة الله وكانوا عباد أصنام وأوثان، ولما لم يستجيبوا له هاجر إلى الشام هو وابن أخيه لوط عليه الصلاة والسلام، فوجدهم عباداً للشمس والقمر وكانوا يعبدون الكواكب من دون الله، وكان عليه السلام ناظر أهل العراق وناظر أهل الشام، ولم يستجب له لا هؤلاء ولا هؤلاء.
ولهذا قال إبراهيم لأهل العراق: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]، فما كان منه إلا أن هجرهم وهاجر إلى الله سبحانه تبارك وتعالى وتوجه إلى الشام الأرض المقدسة، ودعا القوم هنالك، وأقام هناك بالشام عليه الصلاة والسلام، على أنه قد ابتلي في نفسه وفي أهله، فابتلي في أبيه وابتلي في ابنه عليه الصلاة والسلام بلاءً عظيماً، وقد ساق لنا الله جل وعلا القصص مختصرة في هذه السورة التي ليست من الطوال، بل من السور الوسط في كتاب الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يذكر فيها إشارات إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما ابتلوا به، وكأن الغرض من ذلك ذكر العذاب الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الأنبياء، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، فهم استحقوا ذلك بظلمهم أنفسهم {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].