الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
في هذه الآية التي ذكرها الله عز وجل من سورة العنكبوت وما قبلها يخبرنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى أن الإنسان إذا قال: لا إله إلا الله ودخل في هذا الدين العظيم، فإنه لا يظن أنه سيعيش سعيداً في الدنيا بغير بلاء فيها، بل لا بد وأن يصيبه شيء من بلاء الدنيا.
وكلما كان الإنسان قريباً من الله عز وجل، قريباً من دين الله سبحانه وتعالى، ممتثلاً أوامر الله، منزجراً عن نواهي الله سبحانه كلما أصابه البلاء أكثر من غيره.
قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] أي: لا بد وأن يفتنوا وأن يبتلوا حتى يكفر الله عز وجل عنهم من سيئاتهم، ويرفع درجاتهم.
وقد أخبرنا سبحانه أنه فتن الذين من قبلنا، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، وقد كانت الفتنة في السابقين فتنة عظيمة وكانت الأصار عليهم والأغلال شديدة، لكن من رحمته سبحانه أن وضع عنا ذلك قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، ومن الأغلال التي كانت على بني إسرائيل: أنهم إذا أذنبوا ذنباً أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً كما حدث لهم عندما عبدوا العجل، فقام بعضهم لبعض، وظللت عليهم غمامة وأظلم النهار، فقتل في موقف واحد فوق السبعين ألفاً من اليهود؛ حتى قبل الله توبتهم، وهذا كان من الآصار.
أما في ديننا من تاب تاب الله عز وجل عليه، والإسلام يجب ما قبله، والتوبة تمحو الذنوب بفضل الله سبحانه وتعالى.
وقد كان على الذين من قبلنا آصار في عباداتهم، فلا تصح منهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، أما نحن فأيما رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة في مكان من الأماكن فعنده مسجده وطهوره، فيتطهر إن لم يجد ماء بالتراب، وإن وجد مسجداً صلى فيه، فإن لم يجد فالأرض مسجد وطهور، وهذا من فضل الله ورحمته.
ومن الأغلال التي كانت على الذين من قبلنا أنه أن إذا أصاب البول ثوب أحدهم لم يجزئه إلا أن يقصه بالمقص، أما في ديننا فيكفي أن يغسله بالماء.
فهذه الآصار والأغلال التي كانت على الذين من قبلنا رفعها الله عز وجل عنا، قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أحدهم كان ينشر بالمنشار، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فلا يصده ذلك عن دينه، أما هذه الأمة فالإنسان المكره منها ولو على كلمة الكفر معذور في ذلك.
أما السابقون فلم يكن لهم عذر في ذلك، فكان أحدهم إذا ابتلي ليفتن عن دينه لا بد وأن يصبر وإلا مات على ذلك، ولذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب، مر رجل على قوم من الكفار لهم وثن يعبدونه من دون الله فقالوا: قرب -أي: لإلههم الذي يعبدونه- قال: ما أقرب؟ قالوا: قرب شيئاً ولو ذباباً قال: ما كنت لأقرب لغير الله شيئاً، فقدموه فضربوا عنقه، فدخل الجنة بذلك، ومر بهم رجل آخر فقالوا: قرب، قال: ما أقرب؟ قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فكان من أهل النار)، أما نحن في ديننا فقد أذن الله عز وجل في التلفظ بكلمة الكفر لمن قلبه مطمئن بالإيمان حال الإكراه فقال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].
فالذين من قبلنا فتنوا فتناً شديدة، وصبروا، والله عز وجل أعطاهم الأجر على ذلك، وجعل في أمتنا التيسير والتخفيف، ولكن لا بد من البلاء، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3].