سورة العنكبوت بدأها ربنا سبحانه بقوله: {الم} [العنكبوت:1] ثم قال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
قوله: {أَحَسِبَ} [العنكبوت:2]، أي: أفيظن الناس عندما يقولون: آمنا.
أنه لا يتعرض أحدهم للبلاء؟ ليست هذه سنة الله سبحانه في خلقه، إنما سنة الله في الخلق أن يبتلي المؤمن، فكلما ازداد الإيمان واليقين كلما ازداد البلاء من الله تبارك وتعالى عليه، ولذلك كان (أشد الناس ابتلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل) كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول لنا ربنا سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2] قال ابن عباس وغيره: أراد بـ (الناس) قوماً من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كـ سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه، وعدة من بني مخزوم، وغيرهم ممن كان يعذب في مكة، وكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكروا كيف أن الله عز وجل يمكن الكفار منهم، والإنسان في وقت الضيق يمكن أن يحصل في صدره شيء من ذلك، فيأتيه الشيطان فيوسوس في نفسه، ويقول: هل هذا جزاء إيماني؟ هل هذا جزاء أنني أصلي؟ هل هذا لأنني ملتزم بالدين؟ وهكذا، فيوسوس له الشيطان في الابتعاد عن الالتزام، وعن دين رب العالمين، لكن ربنا يطمئن المؤمنين ويثبتهم، وكأنه يقول لهم: أنتم تريدون أن تقولوا: نحن مؤمنون، وتأخذون الجنة العظيمة من غير بلاء؟ لا، لابد من الابتلاء والتمحيص.
وقالوا في سبب نزولها: إنها نزلت في يوم بدر لما قتل مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عبداً عند عمر، فأعتقه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أو كان أبوه عبداً وأعتقه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان له الولاء عليه، وكان الرجل أول قتيل من المسلمين في يوم بدر، رماه رجل من الكفار اسمه: عامر بن الحضرمي فقتله، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الشهداء، ولكن أبوه وامرأته جزعا عليه جزعاً شديداً، فنزلت الآية تطمئنهم وتقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
كذلك ذكروا في سبب نزولها: أن ناساً من المؤمنين كانوا في مكة، وعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في السنة السادسة راسل هؤلاء المؤمنين، وأمرهم أن يخرجوا، فخرج بعضهم فإذا بالمشركين يردونهم ويقتلون بعضهم، فنزلت الآية تثبتهم وتطمئنهم، وأنه لا بد من البلاء، فيبتلي الله الإنسان المؤمن حتى يثبت إيمانه، يقول الله سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] إذاً: سنة الله أن المؤمن مبتلى، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3]، أي: لقد ابتلينا الذين من قبلهم، والفتنة بالتشديد بمعنى: الابتلاء والاختبار، وأصلها: من فتن الحديد، وفتن الذهب، وفتن الفضة، بمعنى: أدخلها النار حتى ينقيها من الشوائب، فقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3]، فالذين من قبلهم فتنوا وحرقوا وأوذوا في سبيل الله عز وجل، ومنهم إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
روى الإمام البخاري عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين) فانظروا إلى هذا البلاء الشديد الذي كان في السابقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك للمؤمنين ليثبتهم وليطمئنهم، فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ وأنت ترى ما نحن فيه من النكال والعذاب من الكفار، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنكم لستم بأول من ابتلي، بل إن بلاءكم أخف ممن كان قبلكم فقد كان يؤتى بالرجل من الذين من قبلكم فينشر بالمناشير، ويمشط بأمشاط الحديد، بمعنى: يؤتى بمشط من حديد قد وضع على النار، وينزعوا به لحمه من جسده (ما دون عظمه ولحمه) يقول صلى الله عليه وسلم: (فما يصرفه ذلك عن دينه، ثم يقسم فيقول: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، أي: أنتم تستعجلون، ولكن إن صبرتم فإن الدين سينشر، والإيمان سيستقر، والأمان سينتشر بين الناس، حتى يخرج المسافر من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف أحداً، لا قطاع طريق ولا غيره، فلا يخاف أحداً في الطريق إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن خاف من شيء ما فسيخاف من الذئب، لأنه يأكل غنمه مثلاً، ولكن لا يخاف من البشر (ولكنكم قوم تستعجلون).
أيضاً مما جاء من الأحاديث في هذا المعنى ما رواه ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك)، أي: مريض مرضاً شديداً، (قال: فوضعت يدي عليه -عليه الصلاة والسلام- فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف) يعني: أنه حط يده فوق اللحاف الذي على النبي صلى الله عليه وسلم فشعر بحرارة شديدة جداً، قال: (فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك) أي: أن هذه حرارة شديدة جداً، فهو لم ير مثلها قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر.
قال أبو سعيد: قلت: يا رسول الله! من أشد الناس بلاء؟ قال: الأنبياء).
إذاً: مهما ابتلي إنسان فلن يبتلى بمثل ما ابتلي به الأنبياء، (قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها أو يجوبها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء).
قوله: (إن كان أحدكم ليفرح بالبلاء) أي: أن الصالحين يبتليهم الله عز وجل فيصبرون على البلاء، بل ويفرحون بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء، وهذا حديث صحيح.
حديث آخر صحيح رواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: (يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً) أي: قوة في الإيمان (اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).
لذلك إذا ابتلي العبد فليتذكر أن الله يكفر عنه سيئاته بهذا البلاء، ويرفع له درجاته بهذا البلاء، ويجعله كالأنبياء، فليتأس بالأنبياء والصالحين، وليصبر على ذلك وينتظر الفرج من الله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.