{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، أي: إذا كان الله قد أعطاك هذه الكنوز العظيمة فلم لا تنفق من هذه الكنوز ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، بدلاً من الاستكبار في الدنيا؟ {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، وهنا يظهر التحلي بأدب الموعظة، إذ إنك لو وعظت غنياً فلا تأمره أن ينفق كل ماله! فالله برحمته سبحانه لم يأمر العباد أن ينفقوا جميع أموالهم، بل النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبره سعد بأنه عازم على أن يوصي بماله كله -وذلك في مرض موته- نهاه عن ذلك وقال له: (الثلث والثلث كثير).
ولذا لو أن الإنسان شارف على الموت لا ينبغي أن يوصي بكل ماله، بل ثلث المال فقط، والثلث كثير، كما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً ما حدث مع كعب بن مالك حين تاب إلى الله عز وجل، وهو من الثلاثة الذين خلفوا وذكر الله قصتهم في سورة براءة، قال: (يا رسول الله! إن من توبتي أن أخرج مالي كله صدقة لله)، أي: أترك المال كله فلا آخذ لنفسي منه شيئاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعضه فهو خير لك).
فليس كل إنسان كـ أبي بكر الصديق، إذ إن له خصوصيات، حيث أنفق ماله كله على دين الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يليه عمر رضي الله عنه، حيث أنفق نصف ماله، وليس كل الناس كـ عمر رضي الله عنه، فالله عز وجل لم يأمر العبد أن ينفق ماله كله، لكن تصدق من هذا المال وأد شكر النعمة.
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، أي: اطلب الجنة بهذا المال ولا تنس نصيبك من الدنيا، بل استمتع بمالك في الحلال الذي هو طيب لك.
فالمعنى: لا تنس نصيبك من الحلال، فكل واشرب ولا تسرف، وأنفق في الحلال ما تحب من إنفاق، بعد أن تعطي لله عز وجل حقه.
{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، فلا بد على الإنسان أن يتذكر دائماً نعمة الله عز وجل عليه، وهنا أمروه أن يحسن ويتذكر إحسان الله عز وجل عليه، ويحذر من الفساد، {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، وهنا كأنهم يعرضون به: أنت مفسد، وأنت مستكبر، ولكن صاغوها بتلك الصياغة الجميلة لعله يتعظ ويتذكر، ولكنه لم يتعظ ولم يتذكر، كما سيأتي بعد ذلك إن شاء الله.