ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران) هذا أحد الثلاثة الذين يؤتون أجرهم مرتين فقد آمن مرتين: آمن بنبيه ثم آمن بنبينا صلوات الله وسلامه عليه، فاستحق أن يؤتى الأجر مرتين على إيمانه بنبيه وعلى اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعبد مملوك أدى حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران) الإنسان يحب أن يكون حراً، بل يفتخر بأنه حر، ولكن أخبر هنا أن العبد المملوك يؤتى أجره مرتين، أي: أكثر من أجر الإنسان الحر، لأنه صبر في الدنيا على ذل الرق فأطاع سيده كما أمره الله عز وجل، وأطاع ربه سبحانه وتعالى فيما أمر، فكان له الأجر مرتين، ولذلك يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك).
لأنه لو كان مملوكاً لم يقدر أن يجاهد فالجهاد ليس فرضاً على المملوك، وإنما فرضيته على الحر، كذلك الحج هو فريضة على الحر، وليس على العبد، قال (وبر أمي) ولو كان عبداً لانشغل بسادته الذين يملكونه فلم يقدر على الجمع بين بر الوالدين وبين حق السيد.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (نعماً للملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعماً له) يعني: له عند الله عز وجل الأجر العظيم على ذلك.
وهنا في الآية ذكر الله سبحانه وتعالى واحداً من الثلاثة، وهو رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم بنبينا صلى الله عليه وسلم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) الحديث في صحيح مسلم ولفظ البخاري قال: (فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها) أي: رجل كان عنده أمة يملكها، وهذا أقوى من الزواج، ومع ذلك فهذا الرجل الذي عنده هذه الأمة أدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وغذاها فأحسن غذائها، حتى صارت كبيرة جميلة مرغوباً فيها لأدبها وعلمها وجمالها، ولو أنه باعها لباعها بمال كثير جداً ولكنه من عليها فأعتقها، ومن عليها مرةً أخرى فتزوجها فصارت امرأة مع زوجها وليس أمة مع سيدها، فالذي يفعل ذلك يشكر الله عز وجل له صنيعه، ويعطيه الأجر مرتين.
قال الله عز وجل في هذا الذي آمن من أهل الكتاب قال: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54] أي: بسبب صبرهم.
{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص:54] وهذه من صفاتهم الجميلة أنهم يدفعون الإساءة بالإحسان، أي: يدفعون بإحسانهم سيئات غيرهم، أو: سيئات أنفسهم، فما أساءوا فيه درءوه بالإحسان بعد ذلك فيتوبون إلى الله عز وجل ويعملون الصالحات، وإذا أساء لهم غيرهم فلا يدفعون السيئة بالسيئة، ولكن يدفعون السيئة بالحسنة، أي: بالصبر وبحسن الخلق يدفعون ما ينالهم من أذى من غيرهم، والله عز وجل مدح هذه الصفات، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96].
فالله أمر المؤمنين أن يدفعوا بالحسنى، فإذا أساء إليك إنسان فأحسن إليه لعل الله عز وجل أن يقلب حاله ويغيره فيصير ولياً حميماً.
وقوله: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص:54] فيها معنيان كما ذكرنا أنهم يدرءون بإحسانهم سيئات غيرهم إذا أساءوا إليهم، وهذا من حسن الخلق.
والأمر الثاني: أنهم رجاعون تائبون إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا أساء أحدهم سرعان ما يتوب ويفيء، ويستغفر ربه سبحانه.
قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص:54] أي: هم أهل كرم ينفقون ويحسنون إلى الفقراء وإلى المساكين وإلى أقربائهم، وإلى الغرباء عنهم، فينفقون مما رزقهم الله سبحانه.
وفيه التنبيه على أن الإنسان مهما أحسن فأنت لا تحسن من فضلك، وإنما من فضل الله ومن كرمه، فبين أنه رزقه هو سبحانه ((َمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ)) أي: أعطيناهم، فهم أنفقوا من رزق الله سبحانه وتعالى ومدحهم على فضله وعلى كرمه سبحانه.