ذكر محاجة موسى لفرعون وقومه

قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} [القصص:36] ومكث فيهم موسى فترة طويلة يدعوهم إلى الله سبحانه، وناظرهم وحاجهم، وقال له فرعون: من هذا الرب الذي تدعو إليه؟ أو لك رب غيري؟ فموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أجاب فرعون بإجابات فصيحة وبليغة، وقد شفاه الله عز وجل مما كان بلسانه من عقدة، فأجاب فرعون وحاجه، ولم يقدر فرعون على الرد على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام كما تقدم في الآيات في سورة طه، قال: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:49 - 54].

وفرعون كان يقول لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فبين موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن الذي يخلق والذي يرزق، والذي ينزل من السماء ماء وينبت به أزواجاً من نبات شتى، والذي يطعمكم ويسقيكم ويعطيكم هو الله سبحانه وتعالى.

وفرعون يعلم في نفسه أنه حقير وأنه ليس إلهاً، وأنه كذاب يكذب على قومه، وفرعون لم يكن له أولاد، فكان يكذب على قومه ويخدعهم ويقول: أنا ابن الشمس؛ وذلك لأنه لم يكن له أبناء، فكان يوهمهم أنه ليس منهم وإنما هو ابن للشمس، فاتبعوه وعبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وأوهمهم أنه يقدر على الخلق فقال: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، فاستخفهم فأطاعوه.

فيبن موسى للجميع أن الرب الله سبحانه وتعالى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، قال فرعون لقومه: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27] فقال موسى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28]، ففرعون رمى موسى بالجنون؛ لأنه لا يقدر على المواجهة بالقول وبالحجة، فإذا به يذكر قومه بما كان عليه موسى قبل ذلك، قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، أي: أنا خير من هذا الذي يزعم الخيرية، وليس عنده ما يدل على ذلك.

فلم يقدر فرعون في معرض المناقشة أن يأتي بجواب مقنع أو برد مفحم على ما يقوله موسى، وإنما غاية ما هنالك أنه يعجب القوم منه ويقول: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] وقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، فلما لا يجد بداً من أنه يواجه بالقوة يقول له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] أي: فلجأ فرعون إلى التهديد وإلى الوعيد، فموسى يقول له: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء:30]، أي: أولو جئتك بآية بينة من عند رب العالمين: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء:31 - 33].

هذه الآيات التي أراها الله عز وجل لموسى قبل ذلك ودربه عليها حتى لا يفزع موسى حين يراها للمرة الأولى، فلما ألقى العصا فإذا هي ثعبان مبين، فيفزع فرعون ومن معه، ولا يفزع موسى عليه الصلاة والسلام، ثم يأخذ هذه الحية من الأرض فترجع مرة ثانية عصا، ويريهم يده ويخرجها من جيبه فإذا بها كالشمس لها شعاع، فيتعجبون لذلك، ففرعون حين رأى ذلك سارع بأن يقول: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء:34] وقال في سورة طه: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه:58] أي: لنأتينك بسحر أعظم من هذا السحر الذي أتيت به أو مثله، {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:58] هذه حجة الإنسان المهزوم الذي يرى نفسه ضعيفة.

ففرعون حين رأى ما فعل موسى وذلك بفضل الله سبحانه، رأى نفسه مهينة حقيرة وأنه غير قادر على مجابهة موسى فقال: أعطنا وقتاً حتى نأتي لك بسحر مثل هذا الشيء، ولذلك قال: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:58]، أي: نختار مكاناً وسطاً يجتمع فيه الناس كلهم.

ففرعون يرى نفسه ضعيفة، فيلجأ إلى السحرة، ويبعث إليهم من أقصى الأرض ومن أدناها، من شمال مصر ومن جنوبها، فيجتمع إليه السحرة الذين يرغبون في القرب من فرعون، ويرغبون في مال فرعون.

قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، أي: هل ستجعل لنا جائزة إن كنا نحن الغالبين؟ يقول لهم: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42] أي: سأعطيكم أجراً إن غلبتم موسى، ليس هذا فحسب، بل سأقربكم إلي وستكونون جلسائي.

فلما اجتمع السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم وهم كفار وقالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] فهم يقسمون بعزة فرعون إنهم هم الغالبون، فهم عندما ألقوا كان منظرها منظراً مخيفاً، حتى إن موسى عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام فزع، وإذا بالله يطمئنه ويثبته ويقول: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68] أي: أنت أعلى من هؤلاء، وأنت ستغلبهم، {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:69]، فألقى عصاه فإذا بها تأتي إلى كل هذه الحبال والعصي التي أخافت موسى فتلتهمها ولا تترك منها شيئاً، {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].

فالسحرة الآن عرفوا ما هو الحق، فخروا لله سجداً {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:47 - 48]، أما فرعون فإنه لم يؤمن؛ لأنه يظن أن ذلك يضيع منه الملك، وطمس الله على قلبه ولم يهده، ليكون إماماً إلى النار والعياذ بالله، فإذا بفرعون يستكبر على هؤلاء، ويقول: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] أي: ستنظرون من الذي هو أشد عذاباً، أهذا الإله الذي يتوعدكم موسى به، أو أنا؟ فالسحرة قد استيقنوا من أمر ربهم سبحانه، وقد دخل الإيمان في قلوبهم، فإذا بإيمانهم إيمان قوي، فقالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] لا نفضلك على هذه الآيات، وأقسموا بالذي فطرهم وهو الله أنهم لا يؤثرون فرعون على ما جاءهم من الآيات والبينات.

فإذا بفرعون يقتل هؤلاء السحرة، ويقطع يداً ورجلاً من كل إنسان، ويصلبهم على جذوع النخل، فكانوا في أول النهار كفاراً سحرة، وكانوا عن الله بعداء، وإذا بهم في آخر النهار يصيرون مؤمنين شهداء، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

فالسحرة جاءوا إلى فرعون حتى يقربهم، فإذا بهم يرون الآيات فيؤمنون بالله وحده لا شريك له ويقتلون شهداء، ويخاف قوم موسى من فرعون، فإذا بالله يؤيده بآيات وراءها آيات كما قال هنا: {فَلمَّاَ جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص:36].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015