قال موسى عليه الصلاة والسلام معترفاً بعجزه: إني ضعيف، ولن أذهب لقوم لا يسمعون لي، فأنا قد قتلت منهم نفساً، فأخاف أن يستقبلوني بالقتل، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، أي: أنا هربت منهم عشر سنين وقد قتلت منهم نفساً {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، أي: أخاف أن يقتصوا مني وأن يقتلوني بهذه النفس.
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، على قراءة الجمهور، وأما قراءة يعقوب: (فأخاف أن يقتلوني).
السبب الثاني: وهو أن في لسانه عقدة، وهو صغير كأن فرعون أراد قتله لأمر فعله موسى، وهو أن موسى عليه الصلاة والسلام لما حمله فرعون، قيل: إنه شده من لحيته، أو أنه عبث بها، فهم فرعون بقتله، فحاولت امرأة فرعون أن تصرف فرعون عن قتله، وتقول: إنه صبي لا يميز ولا يفهم، فأراد فرعون أن يعرف هل موسى يميز أو لا يميز، فقالت امرأة فرعون لفرعون: أره جوهرة وأره ناراً، فإن أخذ الجوهرة يقتل، فقيل: إنه مس جمرة بلسانه عليه الصلاة والسلام، ولم يمس الجوهرة، فالله عز وجل أرى فرعون أن هذا الصبي لا يفهم الذي يفعله، حتى ينجيه الله عز وجل منه، فكان موسى في لسانه عقدة، إذا نطق يصعب عليه النطق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وهذا سبب قول فرعون لقومه لما ذهب موسى يناظرهم كما قال تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] فكلمة مهين أي: حقير، حيث إنه كان هارباً منا ثم رجع إلينا وهو لا يعرف أن يتكلم، ففرعون يعير موسى بأن فيه عقدة في لسانه، وأنه لا يجيد الكلام، قال تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].
فموسى عليه الصلاة والسلام يعترف بعجزه لربه سبحانه، ويقول: إن لساني ضعيف، لا أستطيع أن أنطق ولا أستطيع أن أجادل هؤلاء، وإن أقصى ما يتمناه موسى أن يكون معه من يستطيع أن يتكلم عنه؛ ولذلك قال الله تعالى على لسان موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص:34]، وطلب موسى من ربه أن يزيل ما بلسانه من عقدة لا يقدر معها على الإبانة والإفصاح، فاستجاب الله له، فقال سبحانه في سورة طه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25]، أي: أفسح صدري، ولا تجعله ضيقاً حرجاً؛ لأن الإنسان الضيق الصدر لا يستطيع أن يصبر على كلام الخصوم، فإنه إذا استمع إلى كلامهم سرعان ما يثور، وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام فيه حدة، وفيه غضب لله، فكان سريع الغضب لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان بنو إسرائيل يحبون هارون أكثر من موسى، وهارون كان أكبر من موسى بسنة، وكان أكثر ليناً مع بني إسرائيل من موسى، ولذلك لما مات هارون وهو مع موسى، ورجع موسى اتهموه بقتل هارون، قالوا: أنت قتلته؛ لأنه كان ألين منك وأرق منك قلباً، وهذا كذب وافتراء على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
لما دعا موسى ربه كما قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] دعاه دعوة أخرى فقال: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:26]، فإن توفيق الإنسان يكون بالله سبحانه وتعالى، فموسى عليه الصلاة والسلام لا يقدر على شيء بنفسه، إلا أن يقدره الله له، فطلب من الله أن يشرح له صدره، وأن ييسر له هذا الأمر الذي يتوجه إليه، ويدعو إليه ربه قال تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا} [طه:27 - 29]، فقال: وزيراً وهنا قال: {رِدْءًا} [القصص:34]، فالوزير: هو المؤازر، والمناصر والمدافع، أي: اجعل من يكون معي وزيراً يحمل معي الأوزار، والأثقال، ويحمل معي أعباء النبوة، وقوله تعالى: {رِدْءًا} [القصص:34] أي: ناصراً ومدافعاً، يدافع عني بشيء آخر.
قال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34]، أي: يستطيع أن يتكلم ويجيد التعبير عما يقول، فهذا فصيح اللسان، وأما البليغ: فهو الإنسان الذي يتكلم بكلام موجز قليل يعبر به عن معان كثيرة، والله سبحانه جعل للأنبياء هذه الخصائص، جعلهم يجيدون التعبير عن الأشياء العظيمة بألفاظ قليلة، وأجود بلاغة بلاغة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، حيث قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه قال: (أوتيت جوامع الكلم)، أي: مجامع الكلام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعبر بالكلمات الموجزة التي تشرح في مجلدات كثيرة، فلو أخذنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، فقد بنى عليه العلماء قواعد فقهية ومسائل كثيرة جداً، وخرجوها من هاتين الكلمتين.