الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:7 - 10].
في آية واحدة من هذه الآيات من سورة القصص يخبرنا ربنا تبارك وتعالى بخبرين وبأمرين وبنهيين وبشارتين قالها الله تبارك وتعالى لـ أم موسى، فقال مخبراً: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، فهذا الوحي من الله سبحانه تبارك وتعالى والإخبار منه هو: {أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، وهذا أمره لـ أم موسى بإرضاع الغلام وهو موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ} [القصص:7]، وهذا أمر آخر منه سبحانه وتعالى.
ثم قال لها: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7] نهاها سبحانه أن تخاف وأن تحزن، ثم بشرها سبحانه تبارك وتعالى ببشارتين، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فأخبر سبحانه وأمر ونهى وبشر في آية واحدة، وهذا من بلاغة القرآن العظيم، والإيجاز في الألفاظ مع إعطاء المعاني العظيمة الكثيرة.
وأوحى الله عز وجل إلى أم موسى وهي لم تكن نبية ولكن الوحي هنا هو: الإلهام، فألهمها وألقى ذلك في قلبها، بحيث تثبتت واستيقنت من ذلك، فنفذت ما قاله الله عز وجل لها.
قال: {أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، فإذاً: لما ولد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يمكث مع أمه إلا فترة قليلة قيل: مكث معها أربعة أشهر أو ثلاثة أشهر ترضعه فيها وتخاف عليه من فرعون وجنوده، فأوحى الله عز وجل إليها {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} [القصص:7]، أي: إذا حدث شيء فألقيه في اليم، فأرضعته خلال الثلاثة الأشهر إلى أن تنبه إليه من تنبه وجاءوا إليه ليذبحوه فقال لها الله عز وجل موحياً إليها: {فإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7].
قالوا: إن فرعون كان يرسل القوابل لتوليد نساء بني إسرائيل في السنة التي يذبح فيها الغلمان، فإذا ولدت امرأة استقبل القوابل هذا الغلام ثم ذبحنه، ويأتي الرجال فيأخذونه ويلقونه أو يدفنونه، فكانت العادة جارية بذلك، فلما ولدت أم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فكأن القابلة التي تولده جاءت لتأخذه وتذبحه، ولكن ألقى الله عز وجل محبة موسى في قلبها، فإذا بها تحبه وتقول لأمه: أخفيه، وأنا لن أخبر به، فلما انتبهوا له عليه الصلاة والسلام جاءوا ليأخذوه فألقته في اليم.
قال الله عز وجل: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فكأنها صنعت له تابوتاً، وكانت كلما خافت عليه وضعته في التابوت ووضعته في النهر وربطته حتى لا يذهب، فكل ليلة كأنه كان يحدث منها ذلك حين تخاف أن يأتي من يشك في أمرها، وفي مرة من المرات خافت خوفاً شديداً فوضعته في اليم وغطته وكأنها نست أن تربط هذا التابوت في مكانه، فانطلق التابوت بموسى كالسفينة يحمله من ضفة النهر التي هي فيها إلى مكان وجود فرعون.
وسبحان الله الذي يرينا آياته، فقد كان من الممكن أن الله يربي سبحانه وتعالى موسى في بيت أمه ويخفيه سنين طويلة، ولكنه يرينا قوته وقدرته وإعجازه، فينشأ موسى كما أراد الله في بيت فرعون الذي علا في الأرض، فينشأ في قصره وفرعون هو الذي يربيه، ثم يمن عليه في يوم من الأيام يقول: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18].
ذهب النهر بموسى إلى مكان فرعون، قال الله عز وجل لهذه المرأة: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، فالخوف عادة ما يكون على المستقبل، إن إنساناً خائفاً لابد أن يحصل منه الحزن فقال: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فطمأنها وثبتها سبحانه أنه لن يقدر عليه فرعون فإننا معه، (ولا تحزني) أن فارقته وأن تركته في اليم فهذه مشيئة الله وتقديره سبحانه تبارك وتعالى، فإنه في يوم من الأيام سيرجع إليك، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، وهذا تبشير من الله أن موسى عليه الصلاة والسلام سيكون رسولاً يوماً من الأيام.
قال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص:7]، والتعبير هنا بنون العظمة، أي: إنا فاعلون ذلك؛ لأن الأمر عظيم ولا يفعله إلا العظيم سبحانه وتعالى، ولم يقل: أنا راده وإنما قال: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
والرد إليها يكون بتسهيل الأسباب.